صفحة جزء
[ ص: 342 ] ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم ‎بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ) .

سبب نزول ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) قول ابن الزبعرى حين سمع ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد خصمتك ورب الكعبة ، أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ) فأنزل الله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) . وقيل : لما اعترض ابن الزبعرى قيل لهم : ألستم قوما عربا ، أوما تعلمون أن من لمن يعقل وما لما لا يعقل ، فعلى القول الأول يكون ابن الزبعرى قد فهم من قوله ( وما تعبدون ) العموم فلذلك نزل قوله ( إن الذين سبقت لهم ) الآية تخصيصا لذلك العموم ، وعلى هذا القول الثاني يكون ابن الزبعرى رام مغالطة ، فأجيب بأن من لمن يعقل وما لما لا يعقل فبطل اعتراضه .

( والحسنى ) الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن ، إما السعادة وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة . والظاهر من قوله ( مبعدون ) فما بعده أن من سبقت له الحسنى لا يدخل النار . وروي أن عليا كرم الله وجهه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ، ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه وهو يقول ( لا يسمعون حسيسها ) والحسيس الصوت الذي يحس من حركة الأجرام ، وهذا الإبعاد وانتفاء سماع صوتها قيل هو قبل دخول الجنة . وقيل : بعد دخولهم واستقرارهم فيها ، والشهوة طلب النفس اللذة .

وقال ابن عطية : وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أنه في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه و ( الفزع الأكبر ) عام في كل هول يكون في يوم القيامة فكان يوم القيامة بجملته هو ( الفزع الأكبر ) وإن خصص بشيء فيجب أن يقصد لأعظم هو له . انتهى .

وقيل : ( الفزع الأكبر ) وقوع طبق جهنم عليها قاله الضحاك . وقيل : النفخة الأخيرة . وقيل : الأمر بأهل النار إلى النار ، روي عن ابن جبير وابن جريج والحسن . وقيل : ذبح الموت . وقيل : إذا نودي ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) وقيل ( يوم نطوي السماء ) ذكره مكي .

( وتتلقاهم الملائكة ) بالسلام عليهم . وعن ابن عباس : تلقاهم الملائكة بالرحمة عند خروجهم من القبور قائلين لهم ( هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) بالكرامة والثواب والنعيم . وقرأ أبو جعفر ( لا يحزنهم ) مضارع أحزن وهي لغة تميم ، وحزن لغة قريش ، والعامل في ( يوم لا يحزنهم ) و ( تتلقاهم ) وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلا من العائد المحذوف في ( توعدون ) فالعامل فيه ( توعدون ) أي أيوعدونه أو مفعولا باذكر أو منصوبا بأعني . وأجاز الزمخشري أن يكون العامل فيه ( الفزع ) وليس بجائز لأن ( الفزع ) مصدر وقد وصف قبل أخذ معموله فلا يجوز ما [ ص: 343 ] ذكر .

وقرأ الجمهور ( نطوي ) بنون العظمة . وفرقة منهم شيبة بن نصاح يطوي بياء أي الله ، وأبو جعفر وفرقة بالتاء مضمومة وفتح الواو و ( السماء ) رفعا والجمهور ( السجل ) على وزن الطمر . وأبو هريرة وصاحبه وأبو زرعة بن عمرو بن جرير بضمتين وشد اللام ، والأعمش وطلحة وأبو السماك ( السجل ) بفتح السين والحسن وعيسى بكسرهما ، والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة . وقال أبو عمر : وقراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن . وقال مجاهد ( السجل ) الصحيفة . وقيل : هو مخصوص من الصحف بصحيفة العهد ، والمعنى طيا مثل طي السجل ، وطي مصدر مضاف إلى المفعول ، أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، والأصل ( كثي ) الطاوي ( السجل ) فحذف الفاعل وحذفه يجوز مع المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل ، وقدره الزمخشري مبنيا للمفعول أي كما يطوى السجل . وقال ابن عباس وجماعة : ( السجل ) ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه . وقالت فرقة : هو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافا للفاعل . وقال أبو الفضل الرازي : الأصح أنه فارسي معرب . انتهى .

وقيل : أصله من المساجلة وهي من ( السجل ) وهو الدلو ملأى ماء . وقال الزجاج : هو رجل بلسان الحبش .

وقرأ الجمهور : للكتاب مفردا وحمزة والكسائي وحفص ( للكتب ) جمعا وسكن التاء الأعمش . وقال الزمخشري : ( أول خلق ) مفعول نعيد الذي يفسره ( نعيده ) والكاف مكفوفة بما ، والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء فإن قلت : وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قلت : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم . فإن قلت : ما بال خلق منكرا ؟ قلت : هو كقولك : هو أول رجل جاءني تريد أول الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا فكذلك معنى ( أول خلق ) أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر ، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة ، أي نعيد مثل الذي بدأناه ( نعيده ) و ( أول خلق ) ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى . انتهى .

والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة كما ذكر بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف . و ( أول خلق ) مفعول ( بدأنا ) والمعنى نعيد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له ، أي كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود . في ما قدره الزمخشري تهيئة ( بدأنا ) لأن ينصب ( أول خلق ) على المفعولية . وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك وارتكاب إضمار يعيد مفسرا بنعيده وهذه عجمة في كتاب الله ، وما قوله : ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره ( نعيده ) فهو ضعيف جدا لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف ، فليس مذهب الجمهور إنما ذهب إلى ذلك الأخفش وكونها اسما عند البصريين غير مخصوص بالشعر . وقال ابن عطية : يحتمل معنيين أحدهما : أن يكون خبرا عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور . والثاني أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على [ ص: 344 ] هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ويؤيده ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ) ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) وقوله ( كما بدأنا ) الكاف متعلقة بقوله ( نعيده ) . انتهى . وانتصب ( وعدا ) على أنه مفعول مصدر مؤكدا لمضمون الجملة الخبرية قبله ( إنا كنا فاعلين ) تأكيد لتحتم الخبر أي نحن قادرون على أن نفعل و ( الزبور ) الظاهر أنه زبور داود وقاله الشعبي ، ومعنى هذه الآية موجود في زبور داود وقرأناه فيه و ( الذكر ) التوراة قاله ابن عباس . وقيل ( الزبور ) ما بعد التوراة من الكتب ، و ( الذكر ) التوراة ، وقيل ( الزبور ) يعم الكتب المنزلة و ( الذكر ) اللوح المحفوظ . ( الأرض ) قال ابن عباس : أرض الجنة . وقيل : الأرض المقدسة ( يرثها ) أمة محمد صلى الله عليه وسلم . والإشارة في قوله ( إن في هذا ) أي المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لبلاغا كفاية يبلغ بها إلى الخير . وقيل : الإشارة إلى القرآن جملة ، وكونه عليه السلام رحمة لكونه جاءهم بما يسعدهم . ( وللعالمين ) قيل خاص بمن آمن به . وقيل : عام وكونه ( رحمة ) للكافر حيث أخر عقوبته ، ولم يستأصل الكفار بالعذاب قال معناه ابن عباس . قال : عوفي مما أصاب غيرهم من الأمم من مسخ وخسف وغرق وقذف وأخر أمره إلى الآخرة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون معناه ( وما أرسلناك ) للعالمين ( إلا رحمة ) أي هو رحمة في نفسه وهدى بين أخذ به من أخذ وأعرض عنه من أعرض . انتهى .

ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد ( إلا ) بالفعل قبلها إلا إن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد . وقال الزمخشري : إنما تقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع المثلان في هذه الآية لأن ( إنما يوحى إلي ) مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد و ( أنما إلهكم إله واحد ) بمنزلة إنما زيد قائم ، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية . انتهى . وأما ما ذكره في ( إنما ) إنها لقصر ما ذكر فهو مبني على إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر ، وإنما مع أن كهي مع كان ومع لعل ، فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذلك لا تفيده مع أن وأما جعله ( أنما ) المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها يدل على القصر ، فلا نعلم الخلاف إلا في ( إنما ) بالكسر ، وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منه مع ما بعدها مصدر ، فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة ، ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إليه شيء إلا التوحيد . وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد وفي الآية دليل على تظافر المنقول للمعقول وأن النقل أحد طريقي التوحيد ، ويجوز في ما من ( إنما ) أن تكون موصولة . ( فهل أنتم مسلمون ) استفهام يتضمن الأمر بإخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى ( آذنتكم ) أعلمتكم وتتضمن معنى التحذير والنذارة ( على سواء ) لم أخص أحدا دون أحد ، وهذا الإيذان هو إعلام بما يحل بمن تولى من العقاب وغلبة الإسلام ، ولكني لا أدري متى يكون ذلك و ( إن ) نافية و ( أدري ) معلقة والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري ، وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب ( أقريب ) ( ما توعدون ) ( أم بعيد ) لم تكن فاصلة وكثيرا ما يرجح الحكم في الشيء لكونه فاصلة آخر آية . وعن ابن عامر في رواية ( وإن أدري ) بفتح الياء في الآيتين تشبيها بياء الإضافة لفظا ، وإن كانت لام الفعل ولا تفتح إلا بعامل ، وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء والمعنى أنه تعالى لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه ، والله هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء . ( وإن أدري لعله فتنة ) أي : لعل تأخير هذا [ ص: 345 ] الموعد امتحان لكم لننظر كيف تعملون ، أو يمتنع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة وليقع الموعد في وقت هو حكمة ، ولعل هنا معلقة أيضا وجملة الترجي هي مصب الفعل ، والكوفيون يجرون لعل مجرى هل ، فكما يقع التعليق عن هل كذلك عن لعل ، ولا أعلم أحدا ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهرا فيها كقوله ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) ، ( وما يدريك لعله يزكى ) وقيل ( إلى حين ) إلى يوم القيامة . وقيل : إلى يوم بدر . وقرأ الجمهور ( قل رب ) أمروا بكسر الباء . وقرأ حفص قال ، وأبو جعفر ( رب ) بالضم . قال صاحب اللوامح : على أنه منادى مفرد وحذف حرف النداء فيما جاز أن يكون وصفا لأي بعيد بابه الشعر . انتهى .

وليس هذا من نداء النكرة المقبل عليها بل هذا من اللغات الجائزة في يا غلامي ، وهي أن تبنيه على الضم وأنت تنوي الإضافة لما قطعته عن الإضافة وأنت تريدها بنيته ، فمعنى ( رب ) يا ربي . وقرأ الجمهور ( احكم ) على الأمر من حكم . وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن ( ربي ) بإسكان الياء أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر . وقرأت فرقة : أحكم فعلا ماضيا . وقرأ الجمهور ( تصفون ) بتاء الخطاب . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على أبي على ما يصفون بياء الغيبة ، ورويت عن ابن عامر وعاصم .

التالي السابق


الخدمات العلمية