صفحة جزء
( وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا الله للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق . فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح . ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . قيد هنا من سأل له الرزق فقال : ( من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) ، والضمير في منهم عائد على أهله . دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ; لأن الكافر لا يدعى له بذلك ; ألا ترى أن قريشا لما طغت ، دعا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ، وكانت مكة إذ ذاك قفرا لا ماء بها ولا نبات ، كما قال : ( بواد غير ذي زرع ) فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ، وأنبت الله فيه أنواعا من الثمر . وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل فاقتلع فلسطين ، وقيل : بقعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعا ، فأنزلها بوج فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف ، وقال بعضهم :


كل الأماكن إعظاما لحرمتها تسعى لها ولها في سعيها شرف



وذكر متعلق الإيمان ، وهو الله تعالى واليوم الآخر ; لأن في الإيمان بالله إيمانا بالصانع الواجب الوجود ، وبما يليق به تعالى من الصفات ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبرا صادقا به ، وهم الأنبياء . فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاءوا به . فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به اقتصر على ذلك ; لأن غيره في ضمنه . ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم ، ولا يختص ذلك بذريته ، وإن كان ظاهر قوله : ( وارزقهم من الثمرات ) مختصا بذريته لقوله : ( إني أسكنت من ذريتي ) [ ص: 384 ] لعود الضمير في وارزقهم عليه ، فيحتمل أن يكونا سؤالين . ومن : في قوله : من الثمرات للتبعيض ، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات . وقيل : هي لبيان الجنس ، ومن بدل من أهله ، بدل بعض من كل ، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه ، وفائدته أنه يصير مذكورا مرتين : إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه ، والثانية بالتنصيص عليه ، وتبين أن المبدل منه إنما عني به وأريد البدل فصار مجازا ، إذ أريد بالعام الخاص . هذه فائدة هذين البدلين ، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم وهو البدل ، إذ ذكر مرتين .

( قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) : قرأ الجمهور من السبعة : فأمتعه ، مشددا على الخبر . وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، مخففا على الخبر . وقرأ هؤلاء : ثم أضطره ، خبرا . وقرأ يحيى بن وثاب : فأمتعه مخففا ، ثم إضطره بكسر الهمزة ، وهما خبران . وقرأ ابن محيصن : ثم أضطره ، بإدغام الضاد في الطاء ، خبرا . وقرأ يزيد بن أبي حبيب : ثم أضطره ، بضم الطاء ، خبرا . وقرأ أبي بن كعب : فنمتعه ثم نضطره ، بالنون فيهما . وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما : ( فأمتعه قليلا ثم أضطره ) على صيغة الأمر فيهما ، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في " قال " عائدا على إبراهيم ، لما دعا للمؤمنين بالرزق ، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب . ومن : على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون موصولة أو شرطية ، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضا . وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في قال عائدا على الله تعالى ، ومن : يحتمل أن تكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره : قال الله وأرزق من كفر فأمتعه ، ويكون " فأمتعه " معطوفا على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن . ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء ، إما موصولا وإما شرطا ، والفاء جواب الشرط أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط . ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطا ; لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط ، لا الفعل الواقع جزاء ولا إذا كانت موصولة ; لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيها للموصول باسم الشرط . فكما لا يفسر الجزاء كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء . وأما إذا كان أمرا ، أعني الخبر نحو : زيدا فاضربه ، فيجوز أن يفسر ، ولا يجوز أن تقول : زيدا فتضربه على الاشتغال ، ولجواز : زيدا فاضربه على الأمر ، علة مذكورة في كتب النحو . قال أبو البقاء : لا يجوز أن تكون " من " " مبتدأ " و " فأمتعه " الخبر ; لأن " الذي " لا يدخل الفاء في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقا لصلتها ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم . والكفر لا يستحق به التمتع ، فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو الخبر محذوفا وفأمتعه دليل عليه جاز ، تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه . ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها . وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن يكفر أرزق . ومن على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ; لأن أداة الشرط لا يعمل فيها [ ص: 385 ] جوابها ، بل الشرط . انتهى كلامه . وقوله أولا لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح ; لأن الخبر مستحق بالصلة ; لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر . ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها . وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه ؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضا . فلو كان التمتع قليلا ليس مستحقا بالصلة ، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة ، ناسب أن يقع خبرا من حيث وقع جزاء ، وقد جوز هو ذلك . وأما تقدير زيادة الفاء ، وإضمار الخبر ، وإضمار جواب الشرط ، إذا جعلنا من شرطية ، فلا حاجة إلى ذلك ; لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار . وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها ، ونحن ننزه القرآن عن ذلك . وقال الزمخشري : ومن كفر : عطف على من آمن ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك . انتهى كلامه . وتقدم لنا الرد عليه في زعمه أن " ومن ذريتي " عطف على الكاف في جاعلك . وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح ; لأنه يتنافى في تركيب الكلام ; لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم : وارزق من كفر ; لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل ، ومن آمن : العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في ومن كفر . وإذا قدرته أمرا تنافى مع قوله : فأمتعه ; لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبه التمتع وإلجائهم إليه تعالى ، وأن كلا من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى ، وذلك لا يجوز إلا على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي قال إبراهيم : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار . ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على من ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال : ( فإن قلت ) : لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه ؟ ( قلت ) : قاس الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما ; لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعي . وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له . والمعنى : وأرزق من كفر فأمتعه . انتهى كلامه . فظاهر قوله والمعنى : وأرزق من كفر فأمتعه : يدل على أن الضمير في قال ، ومن كفر ، عائد على الله ، وأن من كفر منصوب ب " أرزق " الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى ، وهو يناقص ما قدم أولا من أن من كفر معطوف على من آمن . وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء ; لأنه لم يرد عليه ; لأنه لا يدعي ويرغب في أن يرزق الكافر ، بل قوله تعالى : ( قال ومن كفر ) ، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار ، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة ولا تعريف الفرق بينهما كما زعم .

وقد تقدم تفسير المتاع وأنه كل ما انتفع به ، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء أو بتيسير المنافع ، ومنه متاع الحياة الدنيا ، أي منفعتها التي لا تدوم ، أو بالتزويد ، ومنه : فمتعوهن ; أي زودوهن نفقة . والمتعة : ما يتبلغ به من الزاد ، والجمع متع ، ومنه : " متاعا لكم وللسيارة " ، والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه : أمتعت زيدا ، جعلته صاحب متاع ، كقولهم : أقبرته وأنعلته ، وكذلك التضعيف في " متع " هو : يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم : عدلته . وليس التضعيف في " متع " يقتضي التكثير ، فينافي ظاهر ذلك القلة ، فيحتاج إلى تأويل ، كما ظنه بعضهم وتأوله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض ، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة . فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافيا . وانتصاب قليلا على أنه صفة لظرف محذوف ، أي زمانا قليلا ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعا قليلا ، على تقدير الجمهور ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه الفعل ، وذلك على مذهب سيبويه . والوصف بالقلة لسرعة انقضائه ، إما لحلول الأجل وإما بظهور محمد [ ص: 386 ] - صلى الله عليه وسلم - فيقتله أو يخرجه عن هذا البلد ، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة ، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها ، أو بالرزق ، أو بالبقاء في الدنيا ، أقوال للمفسرين . وقراءة يحيى بن وثاب : ثم إضطره بكسر الهمزة . قال ابن عطية على لغة قريش ، في قولهم : لا إخال ، يعني بكسر الهمزة . وظاهر هذا النقل في أن ذلك ، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو إضطر ، وهو ما أوله همزة وصل . وفي نحو " إخال " ، وهو إفعل المفتوح العين من فعل المكسور العين ، مخالف لما نقله النحويون . فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوله همزة وصل ، ومما كان على وزن " فعل " بكسر العين " يفعل " بفتحها ، أو ذا ياء مزيدة في أوله ، وذلك نحو " علم يعلم " ، وانطلق ينطلق ، وتعلم يتعلم ، إلا إن كان حرف المضارعة ياء ، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء بل يفتحها . وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل - مذاهب تذكر في علم النحو ، وإنما المقصود هنا : أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة ، إلا إن كان نقل أن " إخال " بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره ، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب ، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحا .

وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله : ( نستعين ) أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة . وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل ) من تأليفنا . وقراءة ابن محيصن : ثم أطره ، بإدغام الضاد في الطاء . قال الزمخشري : هي لغة مرذولة ; لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ، ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف " ضم شفر " . انتهى كلامه . إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب ، فالأوجه البيان ، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل : مضرب ، كما قيل : مصبر في مصطبر . قال سيبويه : وقد قال بعضهم : مطجع ، في مضطجع ، ومضجع أكثر ، وجاز مطجع ، وإن لم يجز في مصطبر مطبر ; لأن الضاد ليست في السمع كالصاد ، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد . فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة ، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع ، وإلى قوله : ومضجع أكثر ، فيدل على أن مطجعا كثير ؟ وألا ترى إلى تعليله ، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت ولم يفعل ذلك بالصاد ، وإبداء الفرق بينهما ؟ وهذا كله من كلام سيبويه يدل على الجواز . وقد [ ص: 387 ] أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى : ( الأرض ذلولا ) ، رواه اليزيدي ، عن أبي عمرو ، وهو ضعيف . وفي الشين في قوله تعالى : ( لبعض شأنهم ) ، ( والأرض شيئا ) ، وهو ضعيف أيضا . وأما الشين فأدغمت في السين . روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى : ( إلى ذي العرش سبيلا ) ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو ، وهو رأس من رءوس البصريين . وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي : ( إن نشأ نخسف بهم ) ، وهو إمام الكوفيين . وأما الراء ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها ولا في النون . وأجاز ذلك في اللام : يعقوب ، وأبو عمرو ، والكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرؤاسي ، وهؤلاء الثلاثة رءوس الكوفيين حكوه سماعا عن العرب . وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها وذكر الخلاف فيها ، لئلا يتوهم من قول الزمخشري : لا تدغم فيما يجاورها ، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين . فأوردت هذا الخلاف فيها تنبيها على أن ذلك ليس بإجماع ، إذ إطلاقه يدل على المنع ألبتة . وقراءة ابن أبي حبيب : بضم الطاء ، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء ، وهو شاذ . وأما قراءة أبي بالنون فيهما ، فهي مخالفة لرسم المصحف ، فهي شاذة . وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير " قال " على سبيل التوكيد أو ليكون ذلك جملتين ، جملة بالدعاء لمن آمن ، وجملة بالدعاء على من كفر ، فلا يندرجان تحت معمول واحد بل أفرد كلا بقول . وأضطره على هذه القراءة هو بفتح الراء المشددة ، كما تقول : عضه بالفتح ، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين ; لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك . ولو قرأ على لغة قومه ، لكان " أضطره إلى عذاب " يتعلق بقوله : ثم أضطره . ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب ، بحيث لا يجد محيصا عنه إذ أحد لا يؤثر دخول النار ولا يختاره . ومفهوم الشرط هنا ملغى ; إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين . ( وبئس المصير ) المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى ، أي وبئس المصير النار ، إن كان المصير اسم مكان ، وإن كان مصدرا على رأي من أجاز ذلك فالتقدير : وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية