صفحة جزء
( وإذ يرفع إبراهيم ) : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها . ويرفع في معنى رفع ، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي ، لأنها ظرف لما مضى من الزمان . والرفع حالة الخطاب قد وقع . وقال الزمخشري : هي حكاية حال ماضية ، وفي ذلك نظر . من البيت : هو الكعبة . ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجة آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على البناء - قصصا كثيرة . واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور ، وفي طول آدم ، والصلع الذي عرض له ولولده ، وفي الحجر الأسود ، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح . وبعضها يناقض بعضا ، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج . ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عطية : والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت . ونشاحه في قوله : أمر ، إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك .

( القواعد ) : تقدم تفسيرها في الكلام على المفردات ، وهل هي الأساس أو الجدر ؟ فإن كانت الأساس ، فرفعها بأن يبني عليها ، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، وتتطاول بعد التقاصر . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء ، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت ، أي استوطئ ، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء .

( من البيت ) : يحتمل أن يكون متعلقا ب يرفع ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنة من البيت . ولم تضف القواعد إلى البيت ، فكان يكون الكلام قواعد [ ص: 388 ] البيت ، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين . ( وإسماعيل ) : معطوف على إبراهيم ، فهما مشتركان في الرفع . قيل : كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة . وقال عبيد بن عمير : رفع إبراهيم وإسماعيل معا ، وهذا ظاهر القرآن . وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك ، كان يناوله الحجارة . وروي عن علي : أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلا صغيرا ، ولا يصح ذلك عن علي . ومن جعل الواو في " وإسماعيل " واو الحال أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر ، التقدير : وإسماعيل يقول : ربنا تقبل منا ، فيكون إبراهيم مختصا بالبناء وإسماعيل مختصا بالدعاء . ومن ذهب إلى العطف ، جعل " ربنا تقبل منا " معمولا لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معا ، في موضع نصب على الحال تقديره : وإذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا . ويؤيد هذا التأويل أن العطف في " وإسماعيل " أظهر من أن تكون الواو واو الحال . وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة ، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ ، فلا يكون في موضع الحال ، والمعنى : أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد ، وفي ندائهما بلفظ ربنا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي .

( ربنا تقبل منا ) : أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك ، وتقبل بمعنى : اقبل ، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم : تعدى الشيء وعداه ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل . والمراد بالتقبل : الإثابة ، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر ; لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه . فشبه الفعل من العبد بالعطية ، والرضا من الله تعالى بالتقبل توسعا . وحكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقا بين القبول والتقبل ، قال : التقبل تكلف القبول ، وذلك حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل ، قال : فهذا اعتراف من إبراهيم وإسماعيل بالتقصير في العمل . ولم يكن المقصود إعطاء الثواب ; لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم ، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه ، وسؤالهما التقبل بذلك ، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجبا على الله تعالى ، انتهى ملخصا . ونقول : إن التقبل والقبول سواء بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى . وقد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل .

( إنك أنت السميع العليم ) : يجوز في أنت الابتداء والفصل والتأكيد . وقد تقدم الكلام في الفصل وفائدته ، وهو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاما دون استدلال . وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب ، إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال ، فهو السميع لضراعتهما وتساؤلهما التقبل ، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما . وتقدمت صفة السمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة نحو قوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) . فأما الذين اسودت وتأخرت صفة العليم لكونها فاصلة ولعمومها ، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات . ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) : أي منقادين ، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله : من أسلم وجهه ، أي أخلص عمله ، والمعنى : أدم لنا ذلك ، لأنهما كانا مسلمين ، ولك تفيد جهة الإسلام ، أي لك لا لغيرك . وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي : مسلمين على الجمع ، دعاء لهما وللموجود من أهلهما كهاجر ، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية ، وقد قيل به هنا .

( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) : لما تقدم الجواب له بقوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) ، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم ، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال : ( ومن ذريتنا ) ، وخص ذريته بالدعاء للشفقة والحنو عليهم ، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعا كثيرا لمتبعهم ، إذ يكونون سببا لصلاح من وراءهم . والذرية هنا ، قيل : [ ص: 389 ] أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بدليل قوله : ( وابعث فيهم ) . وقيل : هم العرب ، لأنهم من ذريتهما . قال القفال : لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ، ولم تزل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من ذريتهما ، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الإيادي . ويقال : عبد المطلب بن هاشم ، جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعمرو بن الظرب ، كانا على دين الإسلام . وجوز الزمخشري أن يكون من في قوله : ومن ذريتنا ، للتبيين ، قال كقوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم ) ، وقد تقدم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك . وتقدم شرح الأمة ، والمراد به هنا : الجماعة أو الجيل ، والمعنى : على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله : واجعل ; لأن الجعل هنا بمعنى التصيير ، فالمعنى : واجعل ناسا من ذريتنا أمة مسلمة لك ، ويمتنع أن يكون ما قدر من قوله : واجعل من ذريتنا بمعنى : أوجد واخلق . وإن كان من جهة المعنى صحيحا ، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد . ومن ذريتنا متعلق باجعل المقدرة ; لأنه إن كان من باب عطف المفردات فهو مشترك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد . وإن كان من باب عطف الجمل فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق . والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد ، فكذلك المحذوف ; ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى : ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ) أن يكون التقدير : وملائكته يصلون ، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف ؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة ، ومن ذريتنا حال ; لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ، ومسلمة المفعول الثاني ، وكان الأصل : اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ، قال : فالواو داخلة في الأصل على أمة ، وقد فصل بينهما بقوله : من ذريتنا ، وهو جائز ; لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف ، وجعلوا قوله :


يوما تراها كشبه أردية ال خمس ويوما أديمها نغلا



من الضرورات ، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، فصار نظير : ضربت الرجل ، ومتجردة المرأة تريد : والمرأة متجردة ، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة . ( وأرنا مناسكنا ) : قال قتادة : معالم الحج . وقال عطاء وابن جريج : مذابحنا ، أي مواضع الذبح . وقيل : كل عبادة يتعبد بها الله تعالى . وقال تاج القراء الكرماني : إن كان المراد أعمال الحج ، وما يفعل في المواقف ، كالطواف ، والسعي ، والوقوف ، والصلاة ، فتكون المناسك جمع منسك : المصدر ، جمع لاختلافها . وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج ، كمنى ، وعرفة ، والمزدلفة ، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة . وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة ، بعث الله إليه جبريل - عليه السلام - ، فحج به . [ ص: 390 ] وفي قراءة ابن مسعود : وأرهم مناسكهم ، أعاد الضمير على الذرية ، ومعنى أرنا : أي بصرنا . إن كانت من رأى البصرية . والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر ; لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد ، وإن كانت من رؤية القلب ، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين ، نحو قوله :


وإنا لقوم ما نرى القتل سبة     إذا ما رأته عامر وسلول



وقال الكميت :


بأي كتاب أم بأية سنة     يرى حبهم عارا علي ويحسب



فإذا دخلت عليها همزة النقل تعدت إلى ثلاثة ، وليس هنا إلا اثنان ، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين . وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب ، وشرحها بقوله : عرف ، فهي عنده تأتي بمعنى عرف ، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب . وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر ، وعن طائفة أنها من رؤية القلب . قال ابن عطية : وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود :


أريني جوادا مات هزلا لأنني     أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا



انتهى كلام ابن عطية وقوله . ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى إذا كانت قلبية تعدت إلى اثنين ، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة ، وقوله : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى اثنين ومعه همزة النقل ، كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة . وإذا كان كذلك ثبت أن لرأى إذا كانت قلبية ، استعمالين : أحدهما : أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف ، والثاني : أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين . واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية ، لا دليل فيه ، بل الظاهر أنها بصرية ، والمعنى على أبصريني جوادا . ألا ترى إلى قوله : مات هزلا ؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر فيحتاج في إثبات رأى القلبية متعدية لواحد إلى سماع . وقد قال ابن مالك ، وهو حاشد لغة ، وحافظ نوادر : حين عدى ما يتعدى إلى اثنين ، فقال في التسهيل ، ورأى لا لإبصار ولا رأي ولا ضرب ، فلو كانت رأى بمعنى عرف ، لنفى ذلك كما نفى عن رأى المتعدية إلى اثنين كونها لا تكون لأبصار ، ولا رأى ولا ضرب . وقال بعض الناس : المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معا ; لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا ، وهذا ضعيف ; لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة ، وهو لا يجوز عندنا . وقرأ ابن كثير : وأرنا ، وأرني خمسة بإسكان الراء . وروي عن أبي عمرو : الإسكان والاختلاس . وروي عنه : الإشباع ، كالباقين ، إلا أن أبا عامر وأبا [ ص: 391 ] بكر أسكنا في أرنا اللذين . فالإشباع هو الأصل ، والاختلاس حسن مشهور في العربية ، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل ، كما قالوا : فخذ وسهله كون الحركة فيه ليست لإعراب . وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف ، فيقبح حذفها ، يعني أن الأصل كان أرء فنقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة ، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف ، وهذا ليس بشيء ; لأن هذا أصل مرفوض ، وصارت الحركة كأنها حركة للراء . وقال الفارسي : ما قاله هذا القائل ليس بشيء ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي ، أي الأصل لكن ، ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، ثم أدغموا ؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام . وأيضا فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصا عن العرب ، قال الشاعر :


أرنا أداوة عبد الله نملؤها     من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا



وأيضا فهي قراءة متواترة ، فإنكارها ليس بشيء . وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك أقوالا سبعة مضطربة النقل . وذكروا أيضا من حج هذا البيت من الأنبياء ومن مات بمكة منهم . وذكروا أنه مات بها نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وغيرهم ، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا .

( وتب علينا ) : قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين ، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب والرجوع عن الذنب ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة ، وكان الضمير في قوله : ( وتب علينا ) خاصا بهما ، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير . قالوا : ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) . وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية ، كان الدعاء بالتوبة منصرفا لمن هو من أهل التوبة . وإن كان الضمير قبله محذوفا مقدرا فالتقدير على عصاتنا ، ويكون دعا بالتوبة للعصاة ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لما ذكرناه من الاحتمال ، خلافا لمن زعم ذلك وقال : التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة . والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) ، إلى قوله : ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له ، وقراءة عبد الله ، وأرهم مناسكهم وتب عليهم ، واحتمال أن يكون : وأرنا مناسكنا على حذف مضاف ، أي وأر ذريتنا مناسكنا ، كقوله : ولقد خلقناكم ، أي خلقنا أباكم . وقال الزمخشري : وتب علينا ما فرط منا من الصغائر ، أو استتابا لذريتهما . انتهى . فقوله : ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة ، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء . قال ابن عطية : وقد ذكر قولي التثبيت أو كون ذلك دعاء للذرية ، قال : وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك ، وبنيا البيت ، وأطاعا ، أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقال الطبري : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن يكون أحسن مما هي . انتهى كلام ابن عطية ، وفيه خروج قوله : وتب علينا ، عن ظاهره إلى تأويل بعيد ، أي إن الدعاء بقوله : وتب علينا ، ليس معناه أنهما طلبا التوبة ، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة ، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة ، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك ، وهذا بعيد جدا . قال ابن عطية : [ ص: 392 ] وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر . انتهى كلامه . قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي ، في ( كتاب المحصول ) له ما ملخصه : قالت الشيعة ، لا يجوز أن يقع منهم ذنب ، لا صغير ولا كبير ، لا عمدا ولا سهوا ، ولا من جهة التأويل . ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر ، ولا التبديل في التبليغ ، ولا الخطأ في الفتوى . وذكر خلافا في أشياء ، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد ، لا كبير ولا صغير ، وأما سهوا فقد يقع ، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا .

( إنك أنت التواب الرحيم ) : يجوز في أنت : الفصل والتأكيد والابتداء ، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة ، وبأن يريهما مناسكهما ، وبأن يتوب عليهما . فناسب ذكر التوبة عليهما ، أو الرحمة لهما . وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة ، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله : ( وتب علينا ) . وتأخرت صفة الرحمة لعمومها ; لأن من الرحمة التوبة ، ولكنها فاصلة . والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا ; لأن قبلها ( إنك أنت السميع العليم ) ، وبعدها : ( إنك أنت العزيز الحكيم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية