صفحة جزء
( إنك أنت العزيز الحكيم ) ، العزيز : الغالب أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ; قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ; قاله ابن عباس ، أو المنتقم ; قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه : فعززنا بثالث ، أو المعز ومنه : ( وتعز من تشاء ) . الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله : ( إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) . وأنت : يجوز فيها ما جاز في ( أنت السميع العليم ) قبل من الأعاريب . وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ; لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته . وتقدمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها . وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن . وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته . ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزا ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام . وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، وقيل الحكمة المتشابهات . وقيل : الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ، وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو [ ص: 394 ] آيات ، وهو كتاب وهو حكمة . انتهى ما لخص من المنتخب .

( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية . ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده . والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام . ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ; لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في " من سفه " موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب " نفسه " على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إما لكون سفه يتعدى بنفسه كـ " سفه " المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي . أما التمييز فلا يجيزه البصريون ; لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبها بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه . وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيدا وحذف مؤكدة ففيه خلاف . وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولا به ، ويكون الفعل يتعدى بنفسه ، فهو الذي نختاره ; لأن ثعلبا والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، ك سفه بفتح الفاء وشدها . وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة . قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه الخفة ، ومنه زمام سفيه . وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :


ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام



وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف الجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث : " الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس " . انتهى كلامه . فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :


ولا بفزارة الشعر الرقابا     أجب الظهر ليس له سنام



ليس بصحيح ; لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة . والشعر جميع أشعر ، وكذلك " أجب الظهر " هو أيضا من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل . وقبل النصف الأول قوله :


فما قومي بثعلبة بن سعدى



وقبل الآخر قوله :


ونأخذ بعده بذناب عيش



فليس نحوه ; لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة . ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها . وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه . وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه . وقال يمان : حمق رأيه . وقال الكلبي : قتل نفسه . وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل . وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيها ، [ ص: 395 ] مثل فقه إذا صار فقيها ، قال :


فلا علم إذا جهل العليم     ولا رشد إذا سفه الحليم

( ولقد اصطفيناه في الدنيا ) : أي جعلناه صافيا من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه . ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته . وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبإن وباللام . ولما كان إخبارا عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلا بعد جيل . وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغا في التوكيد ، وفي الآخرة : متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وإنه لصالح في الآخرة . وقال بعضهم : هو على إضمار ، " أعني " فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ; لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدم معمول الوصف إذ ذاك . وكان بعض شيوخنا يجوز ذلك إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما . وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك . وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا . وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر . قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء . وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن . وقيل : الواردين موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه . وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وإنه لمن الصالحين . وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية