صفحة جزء
( قل لن ينفعكم الفرار ) خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر ، وأنه تنقطع أعمارهم في يسيرهم من المدة ، واليسير مدة الآجال . قال الربيع بن خثيم : وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : ( إن فررتم من الموت ) أو القتل ، لا ينفعكم الفرار ; لأن مجيء الأجل لا بد منه . وإذا هنا تقدمها حرف عطف ، فلا يتحتم إعمالها ، بل يجوز ، ولذلك قرأ بعضهم : " وإذا لا يلبثوا خلافك " في سورة الإسراء ، بحذف النون . ومعنى خلافك : أي : بعد فراقهم إياك . و ( قليلا ) نعت لمصدر محذوف ، أي : تمتيعا قليلا ، أو لزمان محذوف ، أي : زمانا قليلا . ومر بعض المروانية على حائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية ، فقال : ذلك القليل نطلب . وقرأ الجمهور : ( لا تمتعون ) بتاء الخطاب ; وقرئ : بياء الغيبة . و ( من ذا ) استفهام ، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي ، أي : لا أحد يعصمكم من الله . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ، ولا عصمة إلا من السوء ؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجري مجرى قوله :


متقلدا سيفا ورمحا



أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع . انتهى .

أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه ، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف ، أي : يمنعكم من مراد الله . والقائلون لإخوانهم كانوا ، أي : المنافقون ، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقولون : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان ، فخلوهم . وقيل : هم اليهود ، كانوا يقولون لأهل المدينة : تعالوا إلينا وكونوا معنا . وقال ابن زيد : انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الأحزاب ، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ ، فقال : أنت هاهنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إليه ، فقد أحيط بك وبصاحبك . والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا ، فقال : كذبت والذي يحلف به ، ولأخبرنه بأمرك . فذهب ليخبره ، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية . وقال ابن السائب : هي في عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة . فإذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم . وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من إتيانه ، فيأتون ليرى الناس وجوههم ، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة ، فنزلت . وتقدم الكلام [ ص: 220 ] في ( هلم ) في أواخر الأنعام . وقال الزمخشري : وهلموا إلينا ، أي : قربوا أنفسكم إلينا ، قال : وهو صوت سمي به فعل متعد مثل : احضر واقرب . انتهى .

والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا ، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه ; فقيل : هو مركب من ها التي للتنبيه ولم ، وهو مذهب البصريين . وقيل : من هل وأم ، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو . وأما قوله : سمي به فعل متعد ، ولذلك قدر ( هلم إلينا ) أي : قربوا أنفسكم إلينا ; والنحويون : أنه متعد ولازم ; فالمتعدي كقوله : ( قل هلم شهداءكم ) أي : أحضروا شهداءكم ، واللازم كقوله : ( هلم إلينا ) وأقبلوا إلينا . ( ولا يأتون البأس ) أي : القتال ( إلا قليلا ) . يخرجون مع المؤمنين ، يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه ، كقوله : ( ما قاتلوا إلا قليلا ) . وقلته إما لقصر زمانه ، وإما لقلة عقابه ، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق .

( أشحة ) جمع شحيح ، وهو البخيل ، وهو جمع لا ينقاس ، وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو : خليل وأخلاء ; فالقياس أشحاء ، وهو مسموع أيضا ، ومتعلق الشح بأنفسهم ، أو بأحوالهم ، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله ، أو بالغنيمة عند القسم ، أقوال . والصواب : أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة للمؤمنين . وقال الزمخشري : ( أشحة عليكم ) في وقت الحرب ، أضناء بكم ، يترفرفون عليكم ، كما يفعل الرجل بالذاب عن المناضل دونه عند الخوف . ( ينظرون إليك ) في تلك الحالة ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت ، حذرا وخورا ولواذا ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة ، نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير ، وهو المال والغنيمة وسوء تلك الحالة الأولى ، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم ، وقالوا : وفروا قسمتنا ، فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم ، وبنا نصرتم عليهم . انتهى . وهو تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته . وقرأ الجمهور : ( أشحة ) بالنصب . قال الفراء : على الذم ، وأجاز نصبه على الحال ، والعامل يعوقون . وقال الطبري : حال من ( هلم إلينا ) . وقال الزجاج : حال من ( ولا يأتون ) ; وقيل : حال من ( المعوقين ) ; وقيل : من ( القائلين ) ورد القولان بأن فيهما تفريقا بين الموصول وما هو من تمام صلته . وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة ، بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : هم أشحة .

( فإذا جاء الخوف ) من العدو ، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة ، لاذ هؤلاء المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر ، الذي يغشى عليه من الموت . و ( تدور ) في موضع الحال ، أي : دائرة أعينهم . ( كالذي ) في موضع الصفة لمصدر محذوف ، وهو مصدر مشبه ، أي : دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه . فبعد الكاف محذوفان وهما : دوران وعين ، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمصدر من ( ينظرون إليك ) نظرا كنظر الذي يغشى عليه . وقيل : إذا جاء الخوف من القتال ، وظهر المسلمون على أعدائهم ( رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ) في رءوسهم ، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم . قال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم . قال يزيد بن رومان : في أذى المؤمنين وسبهم وتنقيص الشرع . وقال قتادة : في طلب العطاء من الغنيمة ، والإلحاف في المسألة . وقيل : السلق في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمجاملة . وقرأ الجمهور : ( سلقوكم ) بالسين ; وابن أبي عبلة : بالصاد . وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة بالرفع ، أي : هم أشحة ; والجمهور : بالنصب على الحال من ( سلقوكم ) وعلى الخبر يدل على عموم الشح في قوله أولا : ( أشحة عليكم ) . وقيل : في هذا : أشحة على مال الغنائم . وقيل : على مالهم الذي ينفقونه . وقيل : على الرسول صلى الله عليه وسلم بظفره .

( أولئك لم يؤمنوا ) إشارة إلى المنافقين : أي : لم يكن لهم قط إيمان . والإحباط : عدم قبول أعمالهم ، فكانت كالمحبطة . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط ؟ قلت : لا ، ولكن تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان ، وإن لم يواطئه القلب ; وأن ما يعمله المنافق [ ص: 221 ] من الأعمال يجزى عليه . فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل . انتهى ، وفي كلامه استعمال عسى صلة لمن ، وهو لا يجوز . وقال ابن زيد ، عن أبيه : نزلت في رجل بدري ، نافق بعد ذلك ووقع في هذه المعاني ، فأحبط الله عمله في بدر وغيرها . وكان ذلك ، أي : الإحباط ، أو حالهم من شحهم ونظرهم ، يسيرا لا يبالى به ، ولا له أثر في دفع خير ، ولا عليه شر . وقال الزمخشري : ( على الله يسيرا ) معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارف . انتهى ، وهي ألفاظ المعتزلة .

( يحسبون ) أنهم لم يرحلوا ( وإن يأت الأحزاب ) كرة ثانية ، تمنوا لخوفهم بما منوا به عند الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب ، وهم أهل العمود ، يرحلون من قطر إلى قطر ، يسألون من قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب ، يتعرفون أحوالكم بالاستخبار ، لا بالمشاهدة ، فرقا وجبنا ، وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكان قتال ، لم يقاتلوا إلا قليلا ، لعلة ورياء وسمعة . قال ابن السائب : رميا بالحجارة خاصة دون سائر أنواع القتال . وقرأ الجمهور : ( بادون ) جمع سلامة لـ : باد . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن يعمر ، وطلحة : " بدى " على وزن فعل ، كغاز وغزى ، وليس بقياس في معتل اللام ، بل شبه بضارب ، وقياسه فعلة ، كقاض وقضاة . وعن ابن عباس : بدا فعلا ماضيا ; وفي رواية صاحب الإقليد : " بدي " بوزن عدي . وقرأ الجمهور : ( يسألون ) مضارع سأل . وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصما والأعمش قرءوا : " يسالون " ، بغير همز ، نحو قوله : ( سل بني إسرائيل ) ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم ، ولعل ذلك في شاذهما ; ونقلهما صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش . وقرأ زيد بن علي ، وقتادة ، والجحدري ، والحسن ، ويعقوب بخلاف عنهما : " يسأل بعضهم بعضا " ، أي : يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت وماذا بلغك ؟ أو يتساءلون الأعراب ، كما تقول : تراءينا الهلال . ثم سلى الله نبيه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا ما أغنوا وما قاتلوا إلا قتالا قليلا . قال : هو قليل من حيث هو رياء ، ولو كان كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية