صفحة جزء
( قولوا آمنا بالله ) الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا - الآية - فإن كان حقا لم تكذبوه وإن كان كذبا لم تصدقوه " . والضمير في قوله : ( قولوا ) عائد على الذين قالوا : ( كونوا هودا أو نصارى ) . أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به . ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر . وارتبطت هذه الآية بما قبلها ; لأنه لما ذكر في قوله : ( بل ملة إبراهيم ) ، جوابا إلزاميا ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد . هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع إبراهيم ، لأنهم - أعني الطائفتين المختلفتين - قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم . والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد . فلما ذكر هنا جوابا إلزاميا ، ذكر بعده برهانا في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات . وقد ظهرت على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فوجب الإيمان بنبوته . فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرد ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلا .

( وما أنزل إلينا ) : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم . وإن كان الضمير في قولوا عائدا على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ; لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه .

( وما أنزل إلى إبراهيم ) : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف . قال : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) ، وكرر الموصول ; لأن المنزل إلينا - وهو القرآن - غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم . فلو حذف الموصول ، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله : ( وما أنزل إلينا ) . والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطا . قال الشريف أبو البركات الجواني النسابة : وولد يعقوب النبي - صلى الله عليه وسلم - : يوسف النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب - عليه السلام - الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي - صلى الله عليه وسلم - . وجاء من سليمان - عليه السلام - النبي : مريم ابنة عمران ، أم المسيح - عليهما السلام - . وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم الله وهارون أخوه - عليهما السلام - . انتهى كلامه . وقال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب . وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمهم لياثم ، خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين . وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر . انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء . وقيل : روبيل أكبر ولده . وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة اليسع - عليهما السلام - .

[ ص: 408 ] ( وما أوتي موسى وعيسى ) : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات . وموسى هنا : هو موسى بن عمران كليم الله . وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق موسى بن ميشا بن يوسف . وزعم أهل التوراة أن الله نبأه ، وأنه صاحب الخضر . وذكر المؤرخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، والله أعلم بصحة ذلك . انتهى كلامه ، ونص على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ; لأن عيسى إنما جاء مصدقا لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزرا يسيرا . فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير . وجاء : ( وما أنزل إلينا ) ، وجاء : ( وما أوتي موسى وعيسى ) ، تنويعا في الكلام وتصرفا في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحدا ، هذا لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ . ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب :


ونهب نفوس أهل النهب أولى بأهل النهب من نهب القماش



ولما ذكر في الإنزال أولا خاصا ، عطف عليه جمعا . كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصا ، عطف عليه جمعا . ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال : ( وما أوتي النبيون من ربهم ) ، وهو تعميم بعد تخصيص . وظاهر قوله : ( وما أوتي ) يقتضي التعميم في الكتب والشرائع . وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله ؟ قال : " مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان " . وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي . وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولا ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، واليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد ، - صلى الله عليه وسلم - . وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحا ، وهودا ، وشعيبا ، وصالحا ، ولوطا ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمدا ، - صلى الله عليه وسلم - أجمعين . وابتدئ أولا بالإيمان بالله ; لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم ( وما أنزل إلينا ) ، وإن كان متأخرا في الإنزال عن ما بعده ; لأنه أولى بالذكر ; لأن الناس بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، مدعوون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلا . وقدم ( وما أنزل إلى إبراهيم ) على ( وما أوتي موسى وعيسى ) ، للتقدم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته . ( وما أوتي موسى ) : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوزوا أن يكون : ( وما أوتي موسى وعيسى ) في موضع رفع بالابتداء ، " وما أوتي " الثانية عطف على " ما أوتي " ، فيكون في موضع رفع . والخبر في قوله ( من ربهم ) ، أو لا نفرق ، أو يكون : ( وما أوتي موسى وعيسى ) معطوفا على المجرور قبله ، ( وما أوتي النبيون ) رفع على الابتداء ، و ( ومن ربهم ) الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر . والظاهر أن " من ربهم " في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق ب " ما أوتي " الثانية ، أو ب " ما أوتي " الأولى ، وتكون الثانية توكيدا . ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله : ( وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ) ؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، [ ص: 409 ] فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائنا من ربهم .

( لا نفرق بين أحد منهم ) : ظاهره الاستئناف . والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى . فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى - صلوات الله على الجميع - . والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات . وقيل : معناه لا نشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين إذا فارق جماعتهم . وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر " بين " إلى معطوف عليه ; إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول " بين " عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر :


فما كان بين الخير لو جاء     سالما أبو حجر إلا ليال قلائل



يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، إذ قد علم أن " بين " لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوف في قوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) . ومعلوم أن ما وقى الحر وقى البرد ، فحذف " والبرد " لفهم المعنى . ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه . وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ; لأنه لا حذف فيه .

( ونحن له مسلمون ) : هذا كله مندرج تحت قوله : ( قولوا ) . ولما ذكر أولا الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكر الإسلام ، وهو الانقياد الناشئ عن الإيمان الظاهر عن الجوارح . فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشئ عن الأصل . وقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل - عليه السلام - . وقد فسروا قوله : ( مسلمون ) بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلا وفعلا ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون . وله متعلق ب " مسلمون " ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله : ( قولوا آمنا بالله ) الآية ، قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى وقال : " الله أمرني بهذا " . فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا . وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن الله تعالى ، فأنزل الله : ( فإن آمنوا ) الآية . والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى ) . ويجوز أن يكون الخطاب خاصا ، والمراد به العموم ، ويجوز أن يكون عائدا على كل كافر ، فيفسره المعنى .

وقرأ الجمهور : ( بمثل ما آمنتم به ) . وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس : بما آمنتم به . وقرأ أبي : بالذي آمنتم به ، وقال ابن عباس : ليس لله مثل . وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله ، . وإطلاق ما على الله تعالى . كما ذهب إليه بعضهم في قوله : ( والسماء وما بناها ) ، يريد ومن بناها على قوله . وقراءة أبي ظاهرة ، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون . وأما قراءة الجمهور ، فخرجت الباء على الزيادة ، والتقدير : إيمانا مثل إيمانكم ، كما زيدت في قوله : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) .


وسود المحاجر لا يقرأن بالسور



( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، وتكون ما مصدرية . وقيل : ليست بزائدة ، وهي بمعنى على ، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به ، وكون الباء بمعنى على ، قد قيل به ، وممن قال به ابن مالك ، قال ذلك في قوله تعالى : ( من إن تأمنه بقنطار ) ، أي على قنطار . وقيل : هي للاستعانة كقولك : عملت بالقدوم ، وكتبت بالقلم ، أي فإن دخلوا في [ ص: 410 ] الإيمان بشهادة مثل شهادتكم ، وذلك فرار من زيادة الباء ; لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياسا . والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف ، التقدير : فإن آمنوا بالله ، ويكون الضمير في به عائدا على ما عاد عليه قوله : ( ونحن له ) ، وهو الله تعالى . وقيل : يعود على ما ، وتكون إذ ذاك موصولة . وأما مثل ، فقيل : زائدة ، والتقدير : فإن آمنوا بما آمنتم به ، قالوا : كهي في قوله : ( ليس كمثله شيء ) ، أي ليس كهو شيء ، وكقوله :


فصيروا مثل كعصف مأكول



وكقوله :

يا عاذلي دعني من عذلكا     مثلي لا يقبل من مثلكا



وقيل : ليست بزائدة . والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد ، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به . والمعنى : فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم ، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التأويل لا تكون الباء زائدة ، بل هي مثلها في قوله : آمنت بالكتاب . وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، يقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي لا تفعله أنت . والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهذا يئول إلى إلغاء " مثل " ، وزيادتها من حيث المعنى . وقال الزمخشري : بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت ; لأن دين الحق واحد لا مثل له ، وهو دين الإسلام . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) ، فلا يوجد إذا دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقا ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له ، كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك ، على سبيل العرض ، والتقدير : أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ، مساويا له في الصحة والسداد .

( فقد اهتدوا ) : وفيه أن دينهم الذي هم عليه ، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ; لأنه حق وهدى ، وما سواه باطل وضلال ، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه ، فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه . انتهى كلامه ، وهو حسن . وجواب الشرط قوله : ( فقد اهتدوا ) ، وليس الجواب محذوفا ، كهو في قوله : ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل ) لمعنى تكذيب الرسل قطعا ، واستقبال الهداية هنا ، لأنها معلقة على مستقبل ، ولم تكن واقعة قبل .

( وإن تولوا ) : أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان . ( فإنما هم في شقاق ) : أكد الجملة الواقعة شرطا بإن ، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفا لهم ، وهم مظروفون له . فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم ، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه . وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : ( إنا لنراك في ضلال مبين ) ، ( إنا لنراك في سفاهة ) ، هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه . والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي ; أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة . وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى . وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف . قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ; لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم . انتهى .

( فسيكفيكهم الله ) : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها ; لأنه تعالى قد كفاه شرهم . وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ; لأن من كان مشاقا لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) . [ ص: 411 ] وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران . وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفي به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه .

( وهو السميع العليم ) ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلا من الإيمان وضده مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم . ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضا . وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ; لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية