( 
إنا عرضنا الأمانة   ) لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول ، ورتب على الطاعة ما رتب ، بين أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم ، فقال : ( 
إنا عرضنا الأمانة   ) تعظيما لأمر التكليف . والأمانة : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا . والشرع كله أمانة ، وهذا قول الجمهور ، ولذلك قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب    : من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء    : غسل الجنابة أمانة ، والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام ، وهي الأوامر والنواهي ، فتثاب إن أحسنت ، وتعاقب إن أساءت ، فأبت وأشفقت ، ويكون ذلك بإدراك خلقة الله فيها ، وهذا غير مستحيل ، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام ، وحن الجذع إليه ، وكلمته الذراع ، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : أعطيت الجمادات فهما وتمييزا ، فخيرت في الحمل ، وذكر الجبال مع أنها مع الأرض ، لزيادة قوتها وصلابتها ، تعظيما للأمر . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري    : عرضت بمسمع من آدم ، عليه الصلاة والسلام ، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه ، فيتجاسر على الحمل غيره ، ويظهر فضله على الخلائق ، حرصا على العبودية ، وتشريفا على البرية بعلو الهمة . وقيل : هو مجاز ، فقيل : من مجاز الحذف ، أي على من فيها من الملائكة ، وقيل : من باب التمثيل . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري    : إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به ، فأبى محمله والاستقلال به ، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته . ( 
إنه كان ظلوما جهولا   ) ، حيث حمل الأمانة ، ثم لم يف بها . ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم . من ذلك قول العرب : لو قيل للشحم أين تذهب لقيل : أسوي العوج . وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات ، وتصور مقالة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . 
فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر   
[ ص: 254 ] أخرى ; لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين ، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه ، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، فليس كذلك ما في الآية . فإن عرض الأمانة على الجماد ، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم ، فكيف صح بها التمثيل على المحال ؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا ، والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب ؟ وفي نظائره مفروض ، والمفروض أن يتخيل في الذهن كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض ، لو عرضت على السماوات والأرض والجبال ( 
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها   ) . انتهى . 
وقال أيضا : إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها ، وهو ما تأتي من الجمادات ، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة . كما قال : ( 
قالتا أتينا طائعين   ) . وأما الإنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان صالح للتكليف ، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد . والمراد بالأمانة : الطاعة ; لأنها لازمة للوجود . كما أن الأمانة لازمة للأداء ، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز . وحمل الأمانة من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ; لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها ، وهو حامل لها . ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ؟ ولي عليه حق ؟ فأبين أن لا يؤدونها ، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملا لها لا يؤديها . ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . انتهى ، وفيه بعض حذف . 
وقال قوم : الآية من المجاز ، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأيتهما أنهما لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت عنها فعبر عن هذا المعنى بقوله : ( 
إنا عرضنا   ) الآية ، وهذا كما تقول : " عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل ، فرأيتها تقصر عنه ، ونحوه قول 
ابن بحر    " معنى ( 
عرضنا   ) : عارضناها وقابلناها بها . ( 
فأبين أن يحملنها   ) : أي قصرن ونقصن عنها ، كما تقول : أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها . ( 
وحملها الإنسان   ) قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس   nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير    : التزم القيام بحقها ، والإنسان آدم ، وهو في ذلك ظلوم نفسه جهول بقدر ما دخل فيه . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة . وقال 
الضحاك  والحسن    : وحملها معناه خان فيها ، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس  أيضا : ابن 
آدم  قابيل  الذي قتل أخاه 
هابيل  ، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده ، وكان 
آدم  مسافرا عنهم إلى 
مكة  ، في حديث طويل ذكره 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري    . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق    : عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات . والحمل : الخيانة ، كما تقول : حمل خفي واحتمله أي ذهب به . قال الشاعر : 
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع 
انتهى . 
وليس وتحمل أخرى نصا في الذهاب بها ، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى ، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى ، فلا تزال دائما ذا أمانات ، فتخرج إذ ذاك . 
واللام في ( 
ليعذب   ) لام الصيرورة ; لأنه لم يحملها لأن يعذب ، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ، ويتوب على من آمن . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري    : لام التعليل على طريق المجاز ; لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب ، كما أن التأديب في : ضربته للتأديب نتيجة الضرب . وقرأ 
 nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش    : " فيتوب " يعني بالرفع ، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدئ ويتوب . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم   
[ ص: 255 ] يحملها ; لأنه إذا ثبت على أن الواو في ( وكان ) ذلك نوعان من عذاب القتال . انتهى . وذهب صاحب اللوامح أن 
الحسن  قرأ " ويتوب " بالرفع .