صفحة جزء
( فلما قضينا عليه الموت ) أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت ، وأخرجناه إلى حيز الوجود . وجواب لما النفي الموجب ، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف ، خلافا لمن زعم ذلك ; لأنه لو كان ظرفا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه ، وهي نافية ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء ) . فالضمير في ( دلهم ) عائد على الجن الذين كانوا يعملون له ، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له ، فبنوه له . ودخله مختليا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر ، فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت علي بغير إذن ؟ فقال : إنما دخلت بإذن ، قال : ومن أذن لك ؟ قال : رب هذا الصرح . فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه ، فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا ، فقال له : طلبت ما لم يخلق ، فاستوثق من الاتكاء على العصا ، فقبض روحه ، وبقيت الجن تعمل على عادتها . وكان سليمان قصد تعمية موته ; لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة ، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن ، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة ، فكانوا يقولون : إنه يتحنث . وقيل : إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها . وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا هو قد خر ميتا ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة . ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى ، فمات قبل أن يتمه ، ووصى به ابنه ، فأمر الشياطين بإتمامه ، ومات قبل تمامه .

و ( دابة الأرض تأكل ) هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة . وقيل : ليست سوسة الخشب ; لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك موجود . وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة . وإذا كان الأرض مصدرا ، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع . ويقال : إنه مصدر لفعل مفتوح العين . قراءة ابن عباس والعباس بن الفضل : ( الأرض ) بفتح الراء ; لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا ، مطاوع أكلت . وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضة ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ; لأن الدابة أعم من الأرض . وقراءة الجمهور بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب . وتأكل حال ، أي أكلت منسأته ، وهي حال مصاحبة . وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل . فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها فقالت : أنا الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل . وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدئ في زمن داود ، فلما مضى لموته [ ص: 267 ] سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه ، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ، وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي . وقال أبو عمر : وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز . وقرأ ابن ذكوان وجماعة منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفا ، وليس بقياس . وضعف النحاة هذه القراءة ; لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا غير الفاء . وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز :


صريع خمر قام من وكأته كقومة الشيخ إلى منسأته



وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا ، وعلى وزن مفعالة : ( منساءة ) . وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معا ، وهي يدها العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس . ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه ؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف من ساة وسية .

( فلما خر ) أي سقط عن العصا ميتا ، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان . وقيل : إنه لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعا ، ولكنه كان في بيت مبني عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته . وقال ابن عباس : مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب فلما خر أي الباب . انتهى .

وهذا فيه ضعف ; لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل . وقرأ الجمهور : تبينت مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ، وأن وما بعدها بدل من الجن . كما تقول : تبين زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى : ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح . واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم ( أن لو كانوا ) أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة . وقال الزمخشري : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبينا ؟ انتهى . ويجئ تبين بمعنى بان وظهر لازما ، وبمعنى علم متعديا موجود في كلام العرب . قال الشاعر :


تبين لي أن القماءة ذلة     وأن أعزاء الرجال طيالها



وقال آخر :


أفاطم إني ميت فتبيني     ولا تجزعي كل الأنام يموت



أي : فتبيني ذلك أي اعلميه . وقال ابن عطية : ذهب سيبويه إلى أن : ( أن ) لا موضع لها من الإعراب ، إنما هي موزونة ، نحو أن ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ; لأن هذه الأفعال [ ص: 268 ] التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم . فما لبثوا : جواب القسم لا جواب لو . وعلى الأقوال الأول جواب لو . وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ ( تبينت الجن ) بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موتسليمان . وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت . وقرأ ابن عباس - فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه : تبينت مبنيا للمفعول ، وعن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي ، وعلي بن الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية