صفحة جزء
( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . قال علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد الخدري ، وزيد بن علي ، والحسن : هو دخان يجيء يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رءوس الكافرين والمنافقين ، حتى تكون مصلقة حنيذة . وقال ابن مسعود ، وأبو العالية ، والنخعي : هو الدخان الذي رأته قريش . قيل لعبد الله : إن قاصا عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ أنفاس الناس ، فقال : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم . ألا وسأحدثكم أن قريشا لما استعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، دعا عليهم فقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف ، والعلهز . والعلهز : الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل . وفيه أيضا : حتى أكلوا العظام . وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان . فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه ، وناشده الله والرحم ، وواعدوه ، إن دعا لهم وكشف عنهم ، أن يؤمنوا . فلما كشف عنهم ، رجعوا إلى شركهم . وفيه : فرحمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث إليهم بصدقة ومال . وفيه : فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عز وجل : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) ، قال : يعني يوم بدر . وقال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم . وقال عبد الرحمن الأعرج : ( يوم تأتي السماء ) ، هو يوم فتح مكة ، لما حجبت السماء الغبرة . وفي حديث حذيفة : أول الآيات خروج الدجال ، والدخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن ، وفيه قلت : يا نبي الله ، وما الدخان على هذه الآية : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) ؟ وذكر بقية الحديث ، واختصرناه بدخان مبين ، أي ظاهر . لا شك أنه دخان ( يغشى الناس ) : يشملهم . فإن كان هو الذي رأته قريش ، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة ، وقد مضى كما قال ابن مسعود ، وإن كان من أشراط الساعة ، أو يوم القيامة ، فالناس عام فيمن أدركه وقت الأشراط ، وعام بالناس يوم القيامة . ( هذا عذاب ) إلى ( مؤمنون ) في موضع نصب بفعل القول محذوفا ، وهو في موضع الحال ، أي يقولون . ويجوز أن يكون إخبارا من الله ، كأنه تعجب منه ، كما قال في قصة الذبيح : ( إن هذا لهو البلاء المبين ) .

( إنا مؤمنون ) : وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب ، والإيمان واجب كشف العذاب أو لم يكشف . ( أنى لهم الذكرى ) : أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم ما هو أعظم ؟ وأدخل في باب " الادكار من كشف الدخان " ؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والبينات ، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا ، وتولوا عنه وبهتوه بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون . وقرأ زر بن حبيش : معلم ، بكسر اللام . ( إنا كاشفوا العذاب قليلا ) : إخبار عن إقامة الحجة عليهم ، ومبالغة في الإملاء لهم . ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر . وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة : وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب ، كان ظاهرا ، وإن كان الدخان قبل يوم القيامة ، فإذا أتت السماء بالعذاب ، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب ، إنا مؤمنون . فيكشف عنهم ، قيل : بعد أربعين يوما ، فحين [ ص: 35 ] يكشفه عنهم يرتدون . ويوم البطشة الكبرى على هذا هو يوم القيامة ، كقوله : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) . وكونه يوم القيامة ، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة . وكونه يوم بدر ، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد . وانتصب يوم نبطش ، قيل : بذكراهم ، وقيل : بـ ننتقم الدال عليه " منتقمون " ، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل ، وقيل : بـ " منتقمون " . ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها . وقرأ الجمهور : نبطش ، بفتح النون وكسر الطاء ، والحسن ، وأبو جعفر : بضمها ، والحسن أيضا ، وأبو رجاء ، وطلحة : بضم النون وكسر الطاء ، بمعنى : نسلط عليهم من يبطش بهم . و " البطشة " على هذه القراءة ليس منصوبا بـ نبطش ، بل بمقدر ، أي نبطش ذلك المسلط البطشة ، أو يكون " البطشة " في معنى الإبطاشة ، فينتصب بـ نبطش .

( ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ) : هذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله . وقرئ : فتنا ، بتشديد التاء ، للمبالغة في الفعل ، أو التكثير متعلقة ( وجاءهم رسول كريم ) : أي كريم عند الله وعند المؤمنين ، قاله الفراء ، أو كريم في نفسه ، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس ، قاله أبو سليمان ، أو كريم حسن الخلق ، قاله مقاتل . ( أن أدوا إلي عباد الله ) يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول ، وهو رسول كريم ، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع ، فإنها توصل بالأمر . قال ابن عباس : أن أدوا إلي الطاعة يا عباد الله : أي اتبعوني على ما أدعوكم إليه من الإيمان . وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل ، كما قال : فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . فعلى قول ابن عباس : عباد الله : منادى ، ومفعول أدوا محذوف ، وعلى قول مجاهد ومن ذكر معه : عباد الله : مفعول أدوا . ( إني لكم رسول أمين ) : أي غير متهم ، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته .

( وأن لا تعلوا على الله ) : أي لا تستكبروا على عبادة الله ، قاله يحيى بن سلام . قال ابن جريج : لا تعظموا على الله . قيل : والفرق بينهما أن التعظيم تطاول المقتدر والاستكبار ترفع المحتقر ، ذكره الماوردي ، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة . ( إني آتيكم بسلطان مبين ) : أي بحجة واضحة في نفسها وموضحة صدق دعواي . وقرأ الجمهور : إني ، بكسر الهمزة ، على سبيل الإخبار ، وقرأت فرقة : بفتح الهمزة . والمعنى : لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم ، فهذا توبيخ لهم ، كما تقول : أتغضب إن قال لك الحق ؟ ( وإني عذت ) : أي استجرت ( بربي وربكم أن ترجمون ) : كانوا قد توعدوه بالقتل ، فاستعاذ من ذلك . وقرئ : عدت ، بالإدغام . قال قتادة وغيره : الرجم هنا بالحجارة . وقال ابن عباس ، وأبو صالح : بالشتم ، وقول قتادة أظهر ، لأنه قد وقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب ، وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله : ( فلا يصلون إليكما ) . ( وإن لم تؤمنوا لي ) أي تصدقوا ( فاعتزلون ) أي كونوا بمعزل وهذه مشاركة حسنة ، ( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) ، ( أن هؤلاء ) : لفظ تحقير لهم . وقرأ الجمهور : أن هؤلاء ، بفتح الهمزة ، أي بأن هؤلاء . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والحسن في رواية ، وزيد بن علي : بكسرها . ( فأسر بعبادي ) : في الكلام حذف ، أي فانتقم منهم ، فقال له الله : أسر بعبادي ، وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط . وقال الزمخشري : فيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي ، وأن يكون جوابا لشرط محذوف ، كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول ، فأسر بعبادي . انتهى . وكثيرا ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه ، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح ، كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو ، على خلاف في ذلك . ( إنكم متبعون ) : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، فتنجون ويغرق المتبعون . ( واترك البحر رهوا ) : قال ابن عباس : ساكنا كما أجراه . وقال مجاهد وعكرمة : يبسا من قوله : ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) . وقال الضحاك : دمثا لينا . [ ص: 36 ] وقال عكرمة : جددا . وقال ابن زيد : سهلا . وقال مجاهد أيضا : منفردا . قال قتادة : أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ، لما قطعه ، حتى يلتئم ، وخاف أن يتبعه فرعون ، فقيل : لمه هذا ؟ ( إنهم جند مغرقون ) : أي فيه ، لأنهم إذا رأوه ساكنا على حالته حين دخل فيه موسى وبنو إسرائيل ، أو مفتوحا طريقا يبسا ، دخلوا فيه ، فيطبقه الله عليهم .

( كم تركوا ) : أي كثيرا تركوا . ( من جنات وعيون ) : تقدم تفسيرهما في الشعراء . وقرأ الجمهور : ( ومقام ) ، بفتح الميم . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : أراد المقام . وقرأ ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، ونافع : في رواية خارجة بضمها . قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها . ( ونعمة ) ، بفتح النون : نضارة العيش ولذاذة الحياة . وقرأ أبو رجاء : ( ونعمة ) ، بالنصب ، عطفا على كم ( كانوا فيها فاكهين ) . قرأ الجمهور : بألف ، أي طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ، كلابن ، وتامر ، وأبو رجاء ، والحسن : بغير ألف . والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ ، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمة التي كانوا فيها . وقال الجوهري : فكه الرجل ، بالكسر ، فهو فكه إذا كان مزاحا ، والفكه أيضا الأشر . وقال القشيري : فاكهين : لاهين كذلك . وقال الزجاج : والمعنى : الأمر كذلك ، فيوقف على كذلك ، والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : الكاف في موضع نصب ، أي يفعل فعلا كذلك ، لمن يريد إهلاكه . وقال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني . وقال الحوفي : أهلكنا إهلاكا ، وانتقمنا انتقاما كذلك . وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، ( وأورثناها قوما آخرين ) ليسوا منهم ، وهم بنو إسرائيل . كانوا مستعبدين في يد القبط ، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم . وقال قتادة ، وقال الحسن : إن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ، ولا ملكوها قط ، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشأم . انتهى . ولا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها كثير ، وكلام الله صدق . قال تعالى في سورة الشعراء : ( كذلك وأورثناها بني إسرائيل ) وقيل : قوما آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل . ( فما بكت عليهم السماء والأرض ) : استعارة لتحقير أمرهم ، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء . ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . وقال زيد بن مفرغ :


الريح تبكي شجوه والبرق يلمع في غمامه

وقال جرير :


فالشمس طالعة ليست بكاسفة     تبكي عليك نجوم الليل والقمر

وقال النابغة :


بكى حارث الجولان من فقد ربه     وحوران منه خاشع متضائل

وقال جرير :


لما أتى الزهو تواضعت     سور المدينة والجبال الخشع

ويقول في التحقير : مات فلان ، فما خشعت الجبال . ونسبة هذه الأشياء لما لا يعقل ولا يصير ذلك منه حقيقة ، عبارة عن تأثر الناس له ، أو عن عدمه . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الملائكة وأهل الأرض ، وهم المؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين . روي ذلك عن الحسن . وما روي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : إن المؤمن إذا مات ، بكى عليه من [ ص: 37 ] الأرض موضع عبادته أربعين صباحا ، وبكى عليه في السماء موضع صعود عمله . قالوا : فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله تمثيل . ( وما كانوا منظرين ) : أي مؤخرين عن العذاب لما حان وقت هلاكهم ، بل عجل الله لهم ذلك في الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية