وقوله : ( 
على عقبيه   ) في موضع الحال ، أي ناكصا على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخل في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولى عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أولا . قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها . فقيل بالأول ; لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى 
بيت المقدس  ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على 
اليهود  من حيث إنه ترك قبلتهم . وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان 
محمد  على يقين من أمره ، لما تغير رأيه . وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ; لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها الله بالكبر في قوله : ( 
وإن كانت لكبيرة   ) . وقرأ 
ابن أبي إسحاق    : على عقبيه ، بسكون القاف . وتسكين عين فعل ، اسما كان أو فعلا ، لغة تميمية ، وقد تقدم ذكر ذلك . 
( 
وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله   ) : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن 
البيت المقدس  إلى الكعبة ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ومجاهد  وقتادة  ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : ( 
وما جعلنا القبلة   ) ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليها ، وهي 
بيت المقدس  قبل التحويل ، قاله 
أبو العالية  والأخفش    . وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى 
بيت المقدس    . ومعنى " كبيرة " : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف للعادة ; لأن من ألف شيئا ، ثم انتقل عنه ، صعب عليه الانتقال ، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه . وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، دخلت على الجملة الناسخة . واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق ، أم هي لام اجتلبت للفرق ؟ في ذلك خلاف ، هذا مذهب 
البصريين   nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي   nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء  وقطرب  في إن التي يقول 
البصريون  إنها مخففة من الثقيلة ، خلاف مذكور في النحو . وقراءة الجمهور : " لكبيرة " بالنصب ، على أن تكون خبر كانت . وقرأ 
اليزيدي    : " لكبيرة " بالرفع ، وخرج ذلك 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  على زيادة كانت ، التقدير : وإن هي لكبيرة ، وهذا ضعيف ; لأن كان الزائدة لا عمل لها ، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه ، ولذلك استكن فيها . وقد خالف 
أبو سعيد  ، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها ، أي كان هو ، أي الكون . وقد رد ذلك في علم النحو . وكذلك أيضا نوزع من زعم أن كان زائدة في قوله : 
وجيران لنا كانوا كرام 
لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه ، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون " لكبيرة " خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : لهي كبيرة . ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير ، تلك الجملة خبر لكانت ، وهذا التوجيه ضعيف أيضا ، وهو توجيه شذوذ . ( 
إلا على الذين هدى الله   ) ، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف ، إذ التقدير : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله ، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ ; لأنه لم يسبقه نفي أو شبهة ، إنما سبقه إيجاب . ومعنى هدى الله : أي هداهم لاتباع الرسول ، أو عصمهم واهتدوا بهدايته ، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان . وهذه أقوال متقاربة ، وفيه إسناد الهداية إلى الله ، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من   
[ ص: 426 ] الله ، لا من ذوات أنفسهم ، فهو الذي وفقهم لهدايته . 
( 
وما كان الله ليضيع إيمانكم   ) : قيل : سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، فنزلت . وقيل : السائل 
 nindex.php?page=showalam&ids=103أسعد بن زرارة  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=1023والبراء بن معرور  مع جماعة ، وهذا مشكل ; لأنه قد روي أن 
 nindex.php?page=showalam&ids=103أسعد بن زرارة   nindex.php?page=showalam&ids=1023والبراء بن معرور  ماتا قبل تحويل القبلة . وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى 
بيت المقدس  ، وكذلك ذكره 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري   nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي  ، وقال ذلك 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس   nindex.php?page=showalam&ids=48والبراء بن عازب  وقتادة  والسدي  والربيع  وغيرهم ، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه ، وهي من شعبه العظيمة . ويحتمل أن يقر الإيمان على مدلوله ، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى 
بيت المقدس  ، وفي وقت التحويل . وذكر الإيمان ، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى 
بيت المقدس    ; لأنه هو العمدة ، والذي تصح به الأعمال . وقد كان لهم ثابتا في حال توجههم إلى 
بيت المقدس  وغيره ، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم ، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به . وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة ; لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى 
بيت المقدس  ، وأتى بلفظ الخطاب ، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب ; لأن المصلين إلى 
بيت المقدس  لم يكونوا كلهم ماتوا . وقرأ 
الضحاك    : ليضيع - بفتح الضاد وتشديد الياء - وأضاع وضيع ، الهمزة والتضعيف كلاهما للنقل ; إذ أصل الكلمة ضاع . وقال في المنتخب : لولا ذكر سبب نزول هذه الآية : لما اتصل الكلام بعضه ببعض . ووجه تقرير الإشكال ، أن الذين لا يجوزون النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم ، وجب أن يكون الحكم مفسدة ، أو باطلا ، فوقع في قلوبهم ، بناء على هذا السؤال ، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى 
بيت المقدس  كانت ضائعة . فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال ، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم . انتهى . 
وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوز البداء على الله ، فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟ والجواب : أنه لا يقع إلا من منافق ، فأخبر عن جواب سؤال المنافق ، أو جووب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر ، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل . وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية ، لما اتصل الكلام بعضه ببعض ، ليس بصحيح ، بل هو كلام متصل ، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح ، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى : ( 
لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه   ) ، كان ذلك تقسيما للناس حالة الجعل إلى قسمين : متبع للرسول ، وناكص . فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع ، بل عمله وتصديقه ، قبل أن تحول القبلة ، وبعد أن تحول لا يضيعه الله ، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف ، فمن امتثلها ، فهو لا يضيع أجره . ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين ، أخبر تعالى أنه لا يضيعه ، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود ; لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود . فقولك : ما كان زيد ليقوم ، أبلغ مما : كان زيد يقوم ; لأن في المثال الأول : هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام ، وفي الثاني : هو نفي للقيام . ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ; لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته ، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل ، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ . وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن . وكلام العرب . وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب 
البصريين  ، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف ، وأن اللام بعدها أن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر ، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف ، وقد صرح بذلك الخبر في قول بعضهم : 
سموت ولم تكن أهلا لتسمو 
ومذهب 
الكوفيين    : أن اللام هي الناصبة ، وليست أن   
[ ص: 427 ] مضمرة بعده ، وأن اللام بعدها للتأكيد ، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان ، فلا فرق بين : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام . والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو . 
( 
إن الله بالناس لرءوف رحيم   ) : ختم هذه الآية بهذه الجملة ظاهر ، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته ، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا الأخير أظهر . والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس ، كما قال : ( 
الله لطيف بعباده   ) ، ( 
ورحمتي وسعت كل شيء   ) ، ( 
وسعت كل شيء رحمة وعلما   ) ، ويحتمل العهد ، فيكون المراد بالناس المؤمنين . وقرأ 
الحرميان  وابن عامر  وحفص    : لرءوف ، مهموزا على وزن فعول حيث وقع ، قال الشاعر : 
نطيع رسولنا ونطيع ربا     هو الرحمن كان بنا رءوفا 
وقرأ باقي السبعة : لرؤف ، مهموزا على وزن ندس ، قال الشاعر : 
يرى للمسلمين عليه حقا     كحق الوالد الرؤف الرحيم 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=292الوليد بن عقبة    : 
وشر الظالمين فلا تكنه     يقابل عمه الرؤف الرحيم 
وقرأ 
أبو جعفر بن القعقاع    : لروف ، بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله ، ساكنة كانت أو متحركة . ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغا فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغا فيها ، فبولغ فيها بإن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة . وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدم المجرور اعتناء بالمرءوف بهم . وقال 
القشيري    : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل ; ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب . ( 
وما كان الله ليضيع إيمانكم   ) : أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حول ، فهم به له في جميع الأحوال . قال قائلهم : 
حيثما دارت الزجاجة درنا     يحسب الجاهلون أنا جننا