صفحة جزء
( الذين آتيناهم الكتاب ) : هم علماء اليهود والنصارى ، أو من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود ، كابن سلام وغيره ، أو من آمن به مطلقا ، أقوال . والكتاب : التوراة ، أو الإنجيل ، أو مجموعهما ، أو القرآن . أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم ، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا ، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى ، معبرا عنه بنون العظمة ، وكذا ما يجيء من نحو هذا ، مرادا به الإكرام نحو : هدينا ، واجتبينا ، واصطفينا . قيل : ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول ، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو : ( الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ) ، وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد ، فوحد ; لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر .

( يعرفونه ) : [ ص: 435 ] جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم ، وجوز أن يكون الذين مجرورا على أنه صفة للظالمين ، أو على أنه بدل من الظالمين ، أو على أنه بدل من ( الذين أوتوا الكتاب ) في الآية التي قبلها ، ومرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، ومنصوبا على إضمار ، أعني : وعلى هذه الأعاريب يكون قوله : ( يعرفونه ) ، جملة في موضع الحال ، إما من المفعول الأول في آتيناهم ، أو من الثاني الذي هو الكتاب ; لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما . والظاهر هو الإعراب الأول ، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر ، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله : ( إنك إذا لمن الظالمين ) . والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما . وروي عن ابن عباس ، واختاره الزجاج ، ورجحه التبريزي ، وبدأ به الزمخشري فقال : يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص . قال الزمخشري وغيره : واللفظ للزمخشري ، وجاز الإضمار ، وإن لم يسبق له ذكر ; لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علما معلوما بغير إعلام . انتهى . وأقول : ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر : بل هذا من باب الالتفات ; لأنه قال تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك ) ، ثم قال : ( ولئن أتيت الذين ) إلى آخر الآية ، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة . وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب ، أقبل على الناس فقال : ( الذين آتيناهم الكتاب ) واخترناهم لتحمل العلم والوحي ، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه ، لا يشكون في معرفته ، ولا في صدق أخباره ، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة ، لما في كتابهم من ذكره ونعته ، والنص عليه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر ، وأنه من باب الالتفات ، وتبينت حكمة الالتفات . ويؤيد كون الضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام - رضي الله عنهما - وقال : إن الله قد أنزل على نبيه : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) الآية ، فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أشد من معرفتي بابني . فقال عمر : وكيف ذلك ؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقا ، وقد نعته الله في كتابنا ، ولا أدري ما يصنع النساء . فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت ، وقد روي هذا الأثر مختصرا بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها ، وفيه : فقبل عمر رأسه . وإذا كان الضمير للرسول ، فقيل : المراد معرفة الوجه وتميزه ، لا معرفة حقيقة النسب . وقيل : المعنى يعرفون صدقه ونبوته . وقيل : الضمير عائد على الحق الذي هو التحول إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة أيضا ، وابن جريج والربيع . وقيل : عائد على القرآن . وقيل : على العلم . وقيل : على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء ، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء ; لأنه قال : ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، فإن تعلقت المعرفة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون حصولها بالرؤية والوصف ، أو بالقرآن ، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن ، وبنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفته ، أو بالقبلة ، أو التحويل ، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق .

( كما يعرفون أبناءهم ) ، الكاف : في موضع نصب ، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفانا مثل عرفانهم أبناءهم ، أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف ، كان التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة [ ص: 436 ] أبنائهم . وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة ، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك ، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد ، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى ، ومعرفة متعلقها المحسوس . وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور ، فيكونون قد خصوا بذلك ; لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوب الآباء . ويحتمل أن يراد بالأبناء : الأولاد ، فيكون ذلك من باب التغليب . وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس ; لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه ، بخلاف الأبناء ، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه .

( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق ) : أي من الذين آتيناهم الكتاب ، وهم المصرون على الكفر والعناد ، من علماء اليهود النصارى ، على أحسن التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب ، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى ، الذين قيل فيهم : ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، ولوصف الأميين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني . والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قاله قتادة ومجاهد ، والتوجه إلى الكعبة ، أو أن الكعبة هي القبلة ، أو أعم من ذلك ، فيندرج فيه كل حق .

( وهم يعلمون ) : جملة حالية ، أي عالمين بأنه حق . ويقرب أن يكون حالا مؤكدة ; لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به ; لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم . وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فيكون إذ ذاك حالا مبينة .

( الحق من ربك ) : قرأ الجمهور : برفع الحق على أنه مبتدأ ، والخبر هو من ربك ، فيكون المجرور في موضع رفع ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق من ربك ، والضمير عائد على الحق المكتوم ، أي ما كتموه هو الحق من ربك ، ويكون المجرور في موضع الحال ، أو خبرا بعد خبر . وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه . والألف واللام في الحق للعهد ، وهو الحق الذي عليه الرسول ، أو الحق الذي كتموه ، أو للجنس على معنى : أن الحق هو من الله ، لا من غيره ، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله ، كالذي عليه الرسول ، وما لم تثبت حقيقته ، فليس من الله ، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب . وقرأ علي بن أبي طالب : الحق بالنصب ، وأعرب بأن يكون بدلا من الحق المكتوم ، فيكون التقدير : يكتمون الحق من ربك ، قاله الزمخشري ; أو على أن يكون معمولا ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله :


لا أرى الموت يسبق الموت شيء



أي يسبقه شيء . وجوز ابن عطية أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : ( فلا تكونن من الممترين ) . والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمة . ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل . فقولك : لا تكن ظالما ، أبلغ من قولك : لا تظلم ; لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم . وقولك : لا تكن ظالما نهي عن الكون بهذه الصفة . والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة . والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة . وفرق بين ما يدل على عموم ويستلزم عموما ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ; ولذلك كثر النهي عن الكون . قال تعالى : ( فلا تكونن من الجاهلين " ولا [ ص: 437 ] تكونن من الذين كذبوا بآيات الله " " فلا تكن في مرية منه ) . والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي . والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كان فيه نصا على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم فإنه يستلزم الأكوان . وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشددة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة . والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ; لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك .

( ولكل وجهة هو موليها ) ، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلا من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته . ففي ذلك تنبيه على شكر الله ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك . وقرأ الجمهور : " ولكل " : منونا ، " وجهة " : مرفوعا ، هو موليها : بكسر اللام اسم فاعل . وقرأ ابن عامر : هو مولاها ، بفتح اللام اسم مفعول ، وهي قراءة ابن عباس . وقرأ قوم شاذا : ولكل وجهة ، بخفض اللام من " كل " من غير تنوين ، وجهة : بالخفض منونا على الإضافة ، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة ، وذلك المضاف إليه " كل " المحذوف اختلف في تقديره . فقيل : المعنى : ولكل طائفة من أهل الأديان . وقيل : المعنى : ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق إلى جهة الكعبة ، وراءها وقدامها ، ويمينها وشمالها ، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها . وقيل : المعنى : ولكل نبي قبلة ، قاله ابن عباس . وقيل : المعنى : ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة ، فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة ، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه : قبلة ، وهو قول ابن عباس ، وهي قراءة أبي ، قرأ : ولكل قبلة . وقرأ عبد الله : ولكل جعلنا قبلة . وقال الحسن : وجهة : طريقة ، كما قال : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) ، أي لكل نبي طريقة . وقال قتادة : وجهة : أي صلاة يصلونها ، وهو من قوله : " هو موليها " عائد على " كل " على لفظه ، لا على معناه ، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها ، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى ، أي هو موليها وجهه أو نفسه ، قاله ابن عباس وعطاء والربيع ، ويؤيد أن " هو " عائد على كل قراءة من قرأ : " هو مولاها " . وقيل : هو عائد على الله تعالى ، قاله الأخفش والزجاج ، أي الله موليها إياه ، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها . فمعنى هو موليها على هذا التقدير : شارعها ومكلفهم بها . والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة . وأما قراءة من قرأ : " ولكل وجهة " على الإضافة ، فقال محمد بن جرير : هي خطأ ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ ، لا سيما وهي معزوة إلى ابن عامر ، أحد القراء السبعة ، وقد وجهت هذه القراءة . قال الزمخشري : المعنى : ولكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام لتقدم المفعول ، [ ص: 438 ] كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه . انتهى كلامه ، وهذا فاسد ; لأن العامل إذا تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام . لا يجوز أن يقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه . وعليه أن الفعل إذا تعدى للضمير بغير واسطة كان قويا ، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدما ، ولا يمكن أن يكون العامل قويا ضعيفا في حالة واحدة ، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين ، ولذلك تأول النحويون قوله هذا :


سراقة للقرآن يدرسه



وليس نظير ما مثل به من قوله : لزيد ضربت ، أي زيدا ضربت ; لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد ، ولا يجوز أن يقدر عامل في : " لكل وجهة " يفسره قوله : " موليها " ، كتقديرنا زيدا أنا ضاربه ، أي أضرب زيدا أنا ضاربه ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ; لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر . تقول : زيدا مررت به ، أي لابست زيدا ، ولا يجوز : بزيد مررت به ، فيكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر ، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال ، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر ، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر ، بل إذا أردت الاشتغال نصبته ، هكذا جرى كلام العرب . قال تعالى : ( والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) . وقال الشاعر :


أثعلبة الفوارس أم رباحا     عدلت بهم طهية والخشابا



وأما تمثيله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي . فإن قلت : لم لا تتوجه هذه القراءة على أن " لكل وجهة " في موضع المفعول الثاني " لموليها " ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مول ، وهو الهاء ، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف ، وأنث على معنى الطوائف ، وقد تقدم ذكرهم ، ويكون التقدير : وكل وجهة الله مولي الطوائف أصحاب القبلات ؟ فالجواب : أنه منع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله إذا تقدم . أما ما يتعدى إلى اثنين ، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم ، ولا إذا تأخر . وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة . ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين ، فلذلك لا يجوز هذا التقدير . وقال ابن عطية ، في توجيه هذه القراءة : أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع . وقدم قوله : " لكل وجهة " على الأمر في قوله : " فاستبقوا الخيرات " ; للاهتمام بالوجهة ، كما تقدم المفعول . انتهى كلام ابن عطية ، وهو [ ص: 439 ] توجيه لا بأس به .

( فاستبقوا الخيرات ) : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح . وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة ، أو قبلة ، أو صلاة ، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها . قال قتادة : الاستباق في أمر الكعبة رغما لليهود بالمخالفة . وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة ، وإن اختلفت . وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق ، فهو يدل على الاشتراك . ( إنا ذهبنا نستبق ) ، أي نتسابق ، كما تقول . تضاربوا . واستبق لا يتعدى ; لأن تسابق لا يتعدى ، وذلك أن الفعل المتعدي ، إذا بنيت من لفظ معناه : تفاعل للاشتراك ، صار لازما ، تقول : ضربت زيدا ، ثم تقول : تضاربنا ، فلذلك قيل : إن " إلى " هنا محذوفة ، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات . قال الراعي :


ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل     سواكم فإني مهتد غير مائل



يريد ومن يمل سواكم ( أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ) : هذه جملة تتضمن وعظا وتحذيرا وإظهارا لقدرته ، ومعنى : ( يأت بكم الله جميعا ) : أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب ، فأنتم لا تعجزونه ، وافقتم أم خالفتم ، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة . وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا ، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام ، قاله الزمخشري . ( إن الله على كل شيء قدير ) تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات ، وهذا منها . وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان الله بكم جميعا لقدرته على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية