صفحة جزء
قوله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين .

[ ص: 293 ] ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولا . وروي عن عمر وعبد الله وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعه معاذ إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم . وقرأ الجمهور : ( نصوحا ) بفتح النون ، وصفا لتوبة ، وهو من أمثلة المبالغة ، كضروب وقتول . وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر ، عن عاصم ، و خارجة عن نافع : بضمها ، هو مصدر وصف به ، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز ، إذ النصح صفة التائب ، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة ، فيأتي بها على طريقها ، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها ، من قولهم عسل ناصح ، أي : خالص من الشمع ، أو من النصاحة وهي الخياطة ، أي : قد أحكمها وأوثقها ، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه . وسمع علي أعرابيا يقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين قال : وما التوبة ؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وعلى الفرائض الإعادة ، ورد المظالم واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعود ، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه ، انتهى . و " نصوحا " من نصح ، فاحتمل - وهو الظاهر - أن تكون التوبة تنصح نفس التائب ، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس ، أي : يدعوهم إلى مثلها لظهور أمرها على صاحبها . وقرأ زيد بن علي : توبا بغير تاء ، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدرا وصف كما قدمناه ، وجاز أن يكون مفعولا له ، أي : توبوا لنصح أنفسكم . وقرأ الجمهور : ( ويدخلكم ) عطفا على أن يكفر . وقال الزمخشري : عطفا على محل عسى أن يكفر ، كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم . انتهى . والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفا وتشبيها لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة ، تقول في قمع ونطع : قمع ونطع .

يوم لا يخزي منصوب بـ ( يدخلكم ) ولا يخزي تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر ، والنبي هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - تضرع إلى الله - عز وجل - في أمر أمته ، فأوحى الله تعالى إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : [ ص: 294 ] يا رب أنت أرحم بهم ، فقال تعالى : إذا لا أخزيك فيهم . وجاز أن يكون ( والذين ) معطوفا على ( النبي ) فيدخلون في انتفاء الخزي . وجاز أن يكون مبتدأ ، والخبر نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم . وقرأ سهل بن شعيب وأبو حيوة : " وبإيمانهم " بكسر الهمزة ، وتقدم في الحديث . يقولون ربنا أتمم لنا نورنا . قال ابن عباس والحسن : يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين . وقال الحسن أيضا : يدعونه تقربا إليه ، كقوله : واستغفر لذنبك وهو مغفور له . وقيل : يقوله من يمر على الصراط زحفا وحبوا . وقيل : يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه . ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين : تقدم نظير هذه الآية في التوبة .

ضرب الله مثلا للذين كفروا ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط ، في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر ، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن ، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا . ألا ترى إلى قوله تعالى : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ؟ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين . وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله : عبدين من عبادنا لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى . ولم يأت التركيب بالضمير عنهما ، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله : ( صالحين ) لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله في حق إبراهيم - عليه الصلاة والسلام : وإنه في الآخرة لمن الصالحين وفي قول يوسف - عليه السلام : وألحقني بالصالحين وقول سليمان - عليه الصلاة والسلام : وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين . ( فخانتاهما ) وذلك بكفرهما ، وقول امرأة نوح - عليه السلام : هو مجنون ، ونميمة امرأة لوط - عليه السلام - بمن ورد عليه من الأضياف ، قاله ابن عباس . وقال : لم تزن امرأة نبي قط ، ولا ابتلي في نسائه بالزنا . قال في التحرير : وهذا إجماع من المفسرين ، وفي كتاب ابن عطية . وقال الحسن في كتاب النقاش : فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره . وقال الزمخشري : ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ; لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر ، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقا . وقال الضحاك : خانتاهما بالنميمة ، كان إذا أوحي إليه بشيء أفشتاه للمشركين ، وقيل : خانتاهما بنفاقهما . قال مقاتل : اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة . فلم يغنيا بياء الغيبة ، والألف ضمير نوح و لوط ، أي : على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة . وقيل ادخلا النار أي : وقت موتهما ، أو يوم القيامة ; مع الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام ، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط . وقرأ مبشر بن عبيد : ( تغنيا ) بالتاء ، والألف ضمير المرأتين ، ومعنى ( عنهما ) عن أنفسهما ، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل ( عن ) اسما ، كهي في : دع عنك ; لأنها إن كانت حرفا ، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور ، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل ، وذلك لا يجوز .

وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون : مثل - تعالى - حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدو الله - تعالى - والمدعي الإلهية ، بل نجاها منه إيمانها . وبحال مريم ، إذ أوتيت من كرامة الله - تعالى - في الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفارا . إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة : هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث . قيل : كانت عمة موسى - عليه السلام - ، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة . طلبت من ربها القرب من رحمته ، وكان ذلك أهم عندها ، فقدمت الظرف ، وهو " عندك بيتا " ، ثم بينت مكان القرب فقالت : " في الجنة " . وقال بعض الظرفاء : وقد سئل أين في القرآن مثل قولهم : [ ص: 295 ] الجار قبل الدار ؟ قال : قوله تعالى ابن لي عندك بيتا في الجنة فعندك هو المجاورة ، و ( بيتا ) في الجنة هو الدار ، وقد تقدم " عندك " على قوله " بيتا " . ونجني من فرعون . قيل : دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بـ موسى عليه السلام . وذكر المفسرون أنواعا مضطربة في تعذيبها ، وليس في القرآن نصا أنها عذبت . وقال الحسن : لما دعت بالنجاة ، نجاها الله - تعالى - أكرم نجاة ، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم . وقيل : لما قالت : ابن لي عندك بيتا في الجنة أريت بيتها في الجنة يبنى ، " وعمله " ، قيل : كفره . وقيل : عذابه وظلمه وشماتته . وقال ابن عباس : الجماع . ونجني من القوم الظالمين قال : أهل مصر ، وقال مقاتل : القبط ، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى الله - تعالى - عند المحن وسؤال الخلاص منها ، وأن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء . " ومريم " معطوف على امرأة فرعون . ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا : تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . وقرأ الجمهور : ( ابنت ) بفتح التاء . و أيوب السختياني : ( ابنه ) بسكون الهاء وصلا أجراه مجرى الوقف . وقرأ الجمهور : " فنفخنا فيه " أي : في الفرج . وعبد الله : ( فيها ) كما في سورة الأنبياء ، أي : في الجملة . وجمع - تعالى - في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لقلوبهن . وقرأ الجمهور : " وصدقت " بشد الدال . و يعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة ، عن عاصم : بخفها ، أي : كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام ، وما أظهر الله له من الكرامات . وقرأ الجمهور : ( وكلماته ) جمعا ، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس - عليه السلام - وغيره ، وسماها كلمات لقصرها ، ويكون المراد بكتبه : الكتب الأربعة . واحتمل أن تكون الكلمات : ما كلم الله تعالى به ملائكته وغيرهم . ( وبكتبه ) : جميع ما يكتب في اللوح وغيره . واحتمل أن تكون الكلمات : ما صدر في أمر عيسى عليه السلام . وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري : ( بكلمة ) على التوحيد ، فاحتمل أن يكون اسم جنس ، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى ; لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم . وقرأ أبو عمرو وحفص : ( وكتبه ) جمعا ، ورواه كذلك خارجة عن نافع . وقرأ باقي السبعة : ( وكتابه ) على الإفراد ، فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بـ عيسى . وقرأ أبو رجاء : ( وكتبه ) . قال ابن عطية : بسكون التاء ( وكتبه ) وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل . وقال صاحب اللوامح أبو رجاء : ( وكتبه ) بفتح الكاف ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم . قال سهل : و " كتبه " أجمع من " كتابه " ; لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس ، فالكتب عام ، والكتاب هو الإنجيل فقط . انتهى . وكانت من القانتين : غلب الذكورية على التأنيث ، والقانتين شامل للذكور والإناث ، و ( من ) للتبعيض . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين ; لأنها من أعقاب هارون أخي موسى - صلوات الله وسلامه عليهما - وقال يحيى بن سلام : مثل ضربه الله يحذر به عائشة و حفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون و مريم ابنت عمران ; ترغيبا في التمسك بالطاعات والثبات على الدين . انتهى . وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذا وحسنه وزمكه بفصاحة ، فقال : وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه . ومن التغليظ قوله : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 296 ] فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين . والتعريض بـ حفصة أرجح ; لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . انتهى . وقال ابن عطية : وقال بعض الناس : إن في المثلين عبرة لزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تقدم عتابهن ، وفي هذا بعد ; لأن النص أنه للكفار يبعد هذا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية