صفحة جزء
وقوله عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .

[ ص: 302 ] قرأ نافع وأبو عمرو والبزي : ( أأمنتم ) بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا ، و قنبل : بإبدال الأولى واوا لضمة ما قبلها ، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه . والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما . من في السماء هذا مجاز ، وقد قام البرهان العقلي على أنه - تعالى - ليس بمتحيز في جهة ، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن " في السماء " هو صلة من ، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه ، وهو استقر ، أي من في السماء هو ، أي ملكوته ، فهو على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء . لكن خص السماء بالذكر ; لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم ، إذ كانوا مشبهة ، فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ؟ وهو المتعالي عن المكان . وقيل : " من " على حذف مضاف ، أي خالق من في السماء . وقيل : " من " هم الملائكة . وقيل : جبريل ، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره . وقيل : " من " بمعنى على ، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان ، وفي التحرير : الإجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار ; لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء . أن يخسف بكم الأرض وهو ذهابها سفلا فإذا هي تمور أي : تذهب أو تتموج ، كما يذهب التراب في الريح . وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء ، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ، وقال حسان بن ثابت :


فأنذر مثلها نصحا قريشا من الرحمن إن قبلت نذيرا



وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري ، وحذفها باقي السبعة . ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكارقريش بهذه القصة ، وأنه - تعالى - لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل . ( صافات ) باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ( ويقبضن ) ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى . وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله - تعالى - : فالمغيرات صبحا فأثرن عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحا فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضا جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله :


بات يغشيها بعضب باتر     يقصد في أسوقها وجائر



أي : قاصد في أسوقها وجائر . وقال الزمخشري : ( صافات ) باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ; لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا ( ويقبضن ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . ( فإن قلت ) لم قيل : ( ويقبضن ) ولم يقل وقابضات ؟ ( قلت ) : أصل الطيران هو صف الأجنحة ; لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارئ على البسط ; للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح . انتهى . وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم . والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل بـ ما يمسكهن إلا الرحمن أي : بقدرته . قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو إنه بكل شيء بصير يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب . انتهى ، وفيه نزوع إلى قول [ ص: 303 ] أهل الطبيعة . ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء ، واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقا بشكل ، لا من ثقل ولا خفة . وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففا . والزهري مشددا . وقرأ الجمهور : ( أمن ) بإدغام ميم أم في ميم من ، إذ الأصل أم من ، وأم هنا بمعنى بل خاصة ; لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهذا خبر ، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه . وكذلك من هو رازقكم إن أمسك رزقه ، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم . وقرأ طلحة : " أمن " بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة . قال صاحب اللوامح : ومعناه أهذا الذي هو جند لكم ينصركم ، أم الذي يرزقكم ؟ فلفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ . انتهى . بل لجوا تمادوا في عتو في تكبر وعناد ( ونفور ) شراد عن الحق لثقله عليهم . وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم .

أفمن يمشي مكبا على وجهه . قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة . وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ فقال : إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه . فالمشي على قول قتادة حقيقة . وقيل : هو مجاز ، ضرب مثلا للكافر والمؤمن في الدنيا . فقيل : عام ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك ، نزلت فيهما . وقال ابن عباس أيضا : نزلت في أبي جهل والرسول ، عليه الصلاة والسلام . وقيل : في أبي جهل وحمزة ، والمعنى : أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه ، كالماضي في انخفاض وارتفاع ، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه . وأما المؤمن ، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان ، وكونه قد وضح له الحق ، كالماشي صحيح البصر مستويا لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها ، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه . و ( مكبا ) حال من أكب ، وهو لا يتعدى ، وكب متعد ، قال - تعالى - : فكبت وجوههم في النار والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . وقال الزمخشري : ولا شيء من بناء افعل مطاوعا ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه ، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته ، حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتابا يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه . وأهدى : ( أفعل ) تفضيل من الهدى في الظاهر ، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل ؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى . وانتصب ( قليلا ) على أنه نعت لمصدر محذوف ، و " ما " زائدة ، و " تشكرون " مستأنف أو حال مقدرة ، أي : تشكرون شكرا قليلا . وقال ابن عطية : ظاهره أنهم يشكرون قليلا ، وما عسى أن يكون للكافرين شكر ، وهو قليل غير نافع . وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قل ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته البتة . انتهى . وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك . ( ذرأكم ) بثكم ، والحشر : البعث ، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة ، أي : متى إنجاز هذا الوعد ؟ .

فلما رأوه زلفة أي : رأوا العذاب وهو الموعود به ، " زلفة " أي : قربا ، أي : ذا قرب . وقال الحسن : عيانا . وقال ابن زيد : حاضرا . وقيل : التقدير مكانا ذا زلفة ، فانتصب على الظرف . " سيئت " أي : ساءت رؤيته وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل . وأخلص الجمهور كسرة السين ، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب ، و طلحة وابن عامر ونافع والكسائي . " وقيل " لهم ، أي : تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم . وقرأ الجمهور : " تدعون " بشد الدال مفتوحة ، فقيل : من [ ص: 304 ] الدعوى . قال الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار . وقيل : تطلبون وتستعجلون ، وهو من الدعاء ، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن ، وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : " تدعون " بسكون الدال ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة ، عن أبي بكر ، و الأصمعي عن نافع . روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالهلاك . وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه ، فأمر أن يقول : " إن أهلكني الله " كما تريدون ، " أو رحمنا " بالنصر عليكم ، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم ؟ ولما قال : " أو رحمنا " قال : " هو الرحمن " ، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى . وقرأ الجمهور : " فستعلمون " بتاء الخطاب ، و الكسائي : بياء الغيبة نظرا إلى قوله : فمن يجير الكافرين . ولما ذكر العذاب ، وهو مطلق ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء ، وهو عذاب مخصوص . والغور مشروح في الكهف ، والمعين في قد أفلح ، وجواب " إن أهلكني " : " فمن يجير " ، وجواب " إن أصبح " : " فمن يأتيكم " ، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به الفوس والمعاويل ، فذهب ماء عينيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية