صفحة جزء
( إن ناشئه الليل ) قال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين : هي ما بين المغرب والعشاء . وقالت عائشة و مجاهد : هي القيام بعد اليوم ، ومن قام أول الليل قبل اليوم ، فلم يقم ناشئة الليل . وقال ابن جبير وابن زيد : هي لفظة حبشية ، نشأ الرجل : قام من الليل ، فناشئة على هذا جمع ناشئ ، أي : قائم . وقال ابن جبير وابن زيد أيضا وجماعة : ناشئة [ ص: 363 ] الليل : ساعاته ; لأنها تنشأ شيئا بعد شيء . وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن وأبو مجلز : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة ، وما كان قبلها فليس بناشئة . قال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل ، وقال هو وابن الزبير : الليل كله ناشئة . وقال الكسائي : ناشئة الليل أوله . وقال الزمخشري : ناشئة الليل : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي : تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض . قال الشاعر :


نشأنا إلى خوص برى فيها السرى وألصق منها مشرفات القماحد



أو : قيام الليل ، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعله كالعاقبة . انتهى . وقرأ الجمهور : ( وطاء ) بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا . وقرأ قتادة وشبل ، عن أهل مكة : بكسر الواو وسكون الطاء ، والهمزة مقصورة . وقرأ ابن محيصن : بفتح الواو ممدودا ، والمعنى أنها أشد مواطأة ، أي : يواطئ القلب فيها اللسان ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص . ومن قرأ ( وطأ ) أي : أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل ، أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ، كما جاء : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " . وقال الأخفش : أشد قياما . وقال الفراء : أثبت قراءة وقياما . وقال الكلبي : أشد نشاطا للمصلي ; لأنه في زمان راحته . وقيل : أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت فراغ ، فالعبادة تدوم . ( وأقوم قيلا ) أي : أشد استقامة على الصواب ; لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه . قال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ; لأنه زمان التفهم . وقال عكرمة : أتم نشاطا وإخلاصا وبركة . وحكى ابن شجرة : أعجل إجابة للدعاء . وقال زيد بن أسلم : أجدر أن يتفقه فيها القارئ . وقرأ الجمهور : ( سبحا ) أي : تصرفا وتقلبا في المهمات ، كما يتردد السابح في الماء . قال الشاعر :


أبا حوالكم شرق البلاد وغربها     ففيها لكم يا صاح سبح من السبح



وقيل : سبحا سبحة ، أي : نافلة . وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة : سبخا بالخاء المنقوطة ، ومعناه : خفة من التكاليف ، والتسبيخ : التخفيف ، وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه ، فمعناه : انتشار الهمة وتفرق الخاطر بالشواغل . وقيل : فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك . وقيل : المعنى إن فات حزب الليل بنوم أو عذر . فليخلف بالنهار ، فإن فيه سبحا طويلا . قال صاحب اللوامح : وفسر ابن يعمر وعكرمة سبخا بالخاء معجمة . وقال : نوما ، أي : تنام بالنهار لتستعين به على قيام الليل . وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها ، فلا يجاوز عنه . انتهى . وفي الحديث : " لا تسبخي بدعائك " ، أي : لا تخففي . وقال الشاعر :


فسبخ عليك الهم واعلم بأنه     إذا قدر الرحمن شيئا فكائن



وقال الأصمعي : يقال سبخ الله عنك الحمى ، أي : خففها . وقيل : السبخ : المد ، يقال : سبخي قطنك أي : مديه ، ويقال لقطع القطن سبائخ ، الواحدة سبيخة ، ومنه قول الأخطل :


فأرسلوهن يذرين التراب ، كما     يذري سبائخ قطن ندف أوتار



( واذكر اسم ربك ) أي : دم على ذكره ، وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما ، وانتصب ( تبتيلا ) على أنه مصدر على غير الصدر ، وحسن ذلك كونه فاصلة . وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : ( رب ) بالخفض على البدل من ( ربك ) . وباقي السبعة بالرفع . و زيد بن علي : بالنصب . والجمهور : ( المشرق والمغرب ) موحدين . وعبد الله وأصحابه وابن عباس : بجمعهما . وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : على القسم . يعني : خفض ( رب ) بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لا إله إلا هو ، كما [ ص: 364 ] تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيدا . انتهى . ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، إذ فيه إضمار الجار في القسم ، ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الله ، ولا يقاس عليه . ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فلا تنفى إلا بـ ( ما ) وحدها ، ولا تنفى بـ ( لا ) إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبماض في معناه قليلا ، نحو قول الشاعر :


ردوا فوالله لا زرناكم أبدا     ما دام في مائنا ورد لوراد





و الزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها بما نحو قوله :


لعمرك ما سعد بخلة آثم     ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر





( فاتخذه وكيلا ) لأن من انفرد بالألوهية لم يتخذ وكيلا إلا هو . ( واصبر ) ( واهجرهم ) : قيل منسوخ بآية السيف . ( وذرني والمكذبين ) : قيل نزلت في صناديد قريش ، وقيل : في المطعمين يوم بدر ، وتقدمت أسماؤهم في سورة الأنفال ، وتقدم شرح مثل هذا في ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) . ( أولي النعمة ) أي : غضارة العيش وكثرة المال والولد ، والنعمة بالفتح : التنعم ، وبالكسر : الأنعام وما ينعم به ، وبالضم : المسرة ، يقال : نعم ونعمة عين . ( ومهلهم قليلا ) : وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم ، والقليل : موافاة آجالهم . وقيل : وقعة بدر . ( إن لدينا ) أي : ما يضاد نعمتهم ( أنكالا ) : قيودا في أرجلهم . قال الشعبي : لم تجعل في أرجلهم خوفا من هروبهم ، ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استقلت بهم . وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأول أعرف في اللغة ، ومنه قول الخنساء :


دعاك فقطعت أنكاله     وقد كن قبلك لا تقطع



( وجحيما ) : نارا شديدة الإيقاد . ( وطعاما ذا غصة ) قال ابن عباس : شوك من نار يعترض في حلوقهم ، لا يخرج ولا ينزل . وقال مجاهد وغيره : شجرة الزقوم . وقيل : الضريع وشجرة الزقوم . ( يوم ) منصوب بالعامل في ( لدينا ) ، وقيل : بـ ( ذرني ) ( ترجف ) : تضطرب . وقرأ الجمهور : ( ترجف ) بفتح التاء مبنيا للفاعل . و زيد بن علي : بضمها مبنيا للمفعول ( كثيبا ) أي : رملا مجتمعا ( مهيلا ) أي : رخوا لينا . قيل : ويقال : مهيل ومهيول ، وكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، الإتمام في ذوات الياء لغة تميم ، والحذف لأكثر العرب .

ولما هدد المكذبين بأهوال القيامة ، ذكرهم بحال فرعون وكيف أخذه الله تعالى ، إذ كذب موسى - عليه السلام - وأنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى ، فقال : ( إنا أرسلنا إليكم ) والخطاب عام للأسود والأحمر . وقيل : لأهل مكة ( رسولا شاهدا عليكم ) كما قال : ( وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) . وشبه إرساله إلى أهل مكة بإرسال موسى إلى فرعون على التعيين ; لأن كلا منهما ربا في قومه واستحقروا بهما ، وكان عندهم علم بما جرى من غرق فرعون ، فناسب أن يشبه الإرسال بالإرسال . وقيل : الرسول بلام التعريف ; لأنه تقدم ذكره فأحيل عليه . كما تقول : لقيت رجلا فضربت الرجل ; لأن المضروب هو الملقي ، والوبيل : الرديء العقبى ، من قولهم : كلأ وبيل أي : وخيم لا يستمرأ لثقله ، أي : لا ينزل في المريء .

التالي السابق


الخدمات العلمية