صفحة جزء
( ذرني ومن خلقت وحيدا ) : لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب بالوحيد ، أي : لأنه لا نظير [ ص: 373 ] له في ماله وشرفه في بيته . والظاهر انتصاب ( وحيدا ) على الحال من الضمير المحذوف العائد على ( من ) ، أي : خلقته منفردا ذليلا قليلا لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله تعالى المال والولد ، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه . وقيل : حال من ضمير النصب في ( ذرني ) ، قاله مجاهد ، أي : ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه . أو حال من التاء في خلقت ، أي : خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد ، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه . وقيل : وحيدا لا يتبين أبوه . وكان الوليد معروفا بأنه دعي ، كما تقدم في قوله تعالى : ( عتل بعد ذلك زنيم ) وإذا كان يدعى وحيدا ، فلا يجوز أن ينتصب على الذم ; لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيدا لا نظير له . ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علما ، والعلم لا يفيد في المسمى صفة ، وأيضا فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة .

( وجعلت له مالا ممدودا ) قال ابن عباس : كان له بين مكة و الطائف إبل وحجور ونعم وجنان و عبيد وجوار . وقيل : كان صاحب زرع وضرع وتجارة . وقال النعمان بن بشير : المال المدود هو الأرض لأنها مدت . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : هو الريع المستغل مشاهرة ، فهو مد في الزمان لا ينقطع . وقيل : هو مقدار معين ، واضطربوا في تعيينه . فمما قيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ألف دينار ، وكل هذا تحكم . ( وبنين شهودا ) أي : حضورا معه بـ مكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم ، أو شهودا أي : رجالا يشهدون معه المجامع والمحافل ، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه . واختلف في عددهم ، فذكر منهم : خالد وهشام وعمارة ، وقد أسلموا . والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس . قال مقاتل : فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك .

( ومهدت له تمهيدا ) أي : وطأت وهيأت وبسطت له بساطا حتى أقام ببلدته مطمئنا يرجع إلى رأيه . وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام . وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض ، كما يمهد الفراش . ( ثم يطمع أن أزيد ) أي : على ما أعطيته من المال والولد . ( كلا ) أي : ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم . وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة ; لأنه كان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي . ( ثم يطمع ) قال الزمخشري : استبعاد لطمعه واستنكار ، أي : لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة ( كلا ) : قطع لرجائه وردع . انتهى . وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا . ( إنه كان لآياتنا عنيدا ) : تعليل للردع على وجه الاستئناف ، كأن قائلا قال : لم لا يزاد ؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك ، والكافر لا يستحق المزيد . وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله : ( وجعلت له مالا ممدودا ) إلى آخر ما آتاه الله ، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن ; لحديثه في القرآن وزعمه أنه سحر . ( سأرهقه ) أي : سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر ( صعودا ) : عقبة في جهنم ، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة ، وتقدم شرح " عنيد " في سورة إبراهيم عليه السلام .

( إنه فكر وقدر ) : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن ، وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا : هو شعر ، فقال : والله ما هو بشعر ، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه ، قالوا : فهو كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ، ويقول أقوال نفسه . وروي هذا بألفاظ غير هذه ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ، وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل [ ص: 374 ] مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحا وتفرقوا متعجبين منه . وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مرارا حتى كاد أن يقارب الإسلام . ودخل إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - مرارا ، فجاءه أبو جهل ، فقال : يا وليد ! أشعرت أن قريشا قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولا يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن ، وقال : أفعل . ( إنه فكر ) : تعليل للوعيد في قوله : ( سأرهقه صعودا ) . قيل : ويجوز أن يكون ( إنه فكر ) بدلا من قوله : ( إنه كان لآياتنا عنيدا ) بيانا لكنه عناده ، وفكر ، أي : في القرآن ومن أتى به ( وقدر ) أي : في نفسه ما يقول فيه . ( فقتل كيف قدر ) قيل : قتل لعن ، وقيل : غلب وقهر ، وذلك من قوله :


لسهميك في أعشار قلب مقتل

أي : مذلل مقهور بالحب ، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد ، وغلب وذلك إخبار بقهره وذلته ، و ( كيف قدر ) معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب . فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيرا ، كأنه رآنا حين قال كذا . وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه . وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء . وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدر ، تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ، وهذا فيه بعد . وقولهم : قاتلهم الله ، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ، ويدعى عليه من حساده ، والاستفهام في ( كيف قدر ) في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه ، كقولهم أي رجل زيد ؟ أي : ما أعظمه . وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى ; للتراخي الذي بينهما ، كأنه دعى عليه أولا ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل ، فدعى عليه ثانيا ( ثم نظر ) أي : فكر ثانيا . وقيل : نظر إلى وجوه الناس ( ثم عبس وبسر ) أي : قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول . وقيل : قطب في وجه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ( ثم أدبر ) : رجع مدبرا ، وقيل : أدبر عن الحق ( واستكبر ) قيل : تشارس مستكبرا ، وقيل : استكبر عن الحق ، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأن ما يقوله كذب وافتراء ، إذ لو كان ممكنا ، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه ، ولو كان حقا لم يحتج إلى هذا الفكر ; لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمل . ألا ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وأسلم من فوره . وقيل : ثم نظر فيما يحتج به للقرآن ، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودام نظره في ذلك . ( ثم عبس وبسر ) دلالة على تأنيه وتمهله في تأمله ، إذ بين ذلك تراخ وتباعد . وكان العطف في ( وبسر ) وفي ( واستكبر ) لأن البسور قريب من العبوس ، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للإدبار ، إذ الاستكبار معنى في القلب ، والإدبار حقيقة من فعل الجسم ، فهما سبب ومسبب ، فلا يعطف بثم ، وقدم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين ، وناسب العطف بالواو . وكان العطف في ( فقال ) بالفاء دلالة على التعقيب ; لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه ، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل . ومعنى ( يؤثر ) : يروى وينقل ، قال الشاعر :


لقلت من القول ما لا يزا     ل يؤثر عني به المسند



[ ص: 375 ] وقيل : ( يؤثر ) أي : يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار ، ومعنى ( إلا سحر ) أي : شبيه بالسحر . ( إن هذا إلا قول البشر ) : تأكيد لما قبله ، أي : يلتقط من أقوال الناس ، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد . ألا ترى ثناءه على القرآن ، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون ، وقصته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) وكيف ناشده الله بالرحم أن يسكت ؟ ( سأصليه سقر ) قال الزمخشري : بدل من ( سأرهقه صعودا ) . انتهى . ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة منهما ، فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما ، فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله بإرهاق صعود ، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر ، وتقدم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر . ( وما أدراك ما سقر ) : تعظيم لهولها وشدتها ( لا تبقي ولا تذر ) أي : لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه . ( لواحة للبشر ) قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور : معناه مغيرة للبشرات ، محرقة للجلود مسودة لها ، والبشر جمع بشرة ، وتقول العرب : لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته . وقال الحسن وابن كيسان : لواحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر ، والمعنى أنها تظهر للناس ، وهم البشر ، من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزجرها ، كقوله تعالى : ( لترون الجحيم ) وقوله : ( وبرزت الجحيم لمن يرى ) . وقرأ الجمهور : ( لواحة ) بالرفع ، أي : هي لواحة . وقرأ العوفي وزيد بن علي ، والحسن وابن أبي عبلة : ( لواحة ) بالنصب على الحال المؤكدة ; لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للأبشار . وقال الزمخشري : نصبا على الاختصاص للتهويل .

( عليها تسعة عشر ) : التمييز محذوف ، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك . ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك ؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين .

فأنزل الله تعالى : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) أي : ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون ، وأنزل الله تعالى في أبي جهل ( أولى لك فأولى ) . وقيل : التمييز المحذوف صنفا من الملائكة ، وقيل : نقيبا ، ومعنى عليها يتولون أمرها ، وإليهم جماع زبانيتها ، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث ، أن هؤلاء هم النقباء . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) وقوله - عليه الصلاة والسلام : " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم ، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته ، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكما على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره . وقرأ الجمهور : ( تسعة عشر ) مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد . وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين ، كراهة توالي الحركات . وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء ، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح ; لتوالي خمس فتحات ، ولا يتوهم أنها حركة إعراب ; لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب ( عشر ) . وقرأ أنس أيضا : تسعة بالضم ( أعشر ) بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ، ثم أجراه مجرى تسعة عشر ، وعنه أيضا تسعة وعشر بالضم ، وقلب الهمزة من أعشر واوا خالصة تخفيفا ، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء ; لأنها معاقبة للفتحة فرارا من الجمع بين خمس [ ص: 376 ] حركات على جهة واحدة . وعن سليمان بن قنة ، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ ( تسعة أعشر ) بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر ، و ( أعشر ) مجرور منون ، وذلك على فك التركيب . قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ ( أعشر ) مبنيا أو معربا من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكا . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . قال الزمخشري : وقرئ ( تسعة أعشر ) جمع عشير ، مثل يمين وأيمن . انتهى . وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو القائل :


مررت على أبيات آل محمد     فلم أر أمثالا لها يوم حلت
وكانوا ثمالا ثم عادوا رزية     لقد عظمت تلك الرزايا وجلت



( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) أي : جعلناهم خلقا لا قبل لأحد من الناس بهم ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) أي : سبب فتنة ، و ( فتنة ) مفعول ثان لجعلنا ، أي : جعلنا تلك العدة ، وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار ، فليس فتنة مفعولا من أجله ، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء . فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها . ( ليستيقن ) : هذا مفعول من أجله ، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة . فليست الفتنة معلولة للاستيقان ، بل المعلول جعل العدة سببا لـ ( فتنة ) ( الذين أوتوا الكتاب ) وهماليهود والنصارى . إن هذا القرآن هو من عند الله ، إذ هم يجدون هذه العدة في كتبهم المنزلة ، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ، ولكن كتابه يصدق كتب الأنبياء ، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى . قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد ، وبورود الحقائق من عند الله تعالى يزداد كل ذي إيمان إيمانا ، ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين . وقيل : إنما صار جعلها فتنة ; لأنهم يستهزئون ويقولون لم لم يكونوا عشرين ؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟ ويقولون هذا العدد القليل ، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) قد جعل افتتان الكافرين بعدة الزبانية سببا لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك ؟ ( قلت ) : ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك ، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا ، وذلك أن المراد بقوله : ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) : وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر . فوضع ( فتنة للذين كفروا ) موضع تسعة عشر ; لأن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ، ويعترض ويستهزئ ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها ; لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين . انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى ، إذ زعم أن معنى ( إلا فتنة للذين كفروا ) : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء . وكفى ردا عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى . وقيل : ( ليستيقن ) متعلق بفعل مضمر ، أي : فعلنا ذلك ليستيقن . ( ولا يرتاب ) : توكيد لقوله ( ليستيقن ) إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام . و ( الذين في قلوبهم مرض ) قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بـ مكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان . وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي : وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بـ المدينة بعد الهجرة : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) . لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضا عن ذلك [ ص: 377 ] استبعادا أن يكون هذا من عند الله ، وسموه مثلا استعارة من المثل المضروب ; استغرابا منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ؟ ومرادهم إنكار أصله ، وأنه ليس من عند الله ، وتقدم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية