صفحة جزء
قوله عز وجل : [ ص: 413 ] ( إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا ) .

( مرصادا ) : مفعال من الرصد ، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب . وقال مقاتل : مجلسا للأعداء وممرا للأولياء ، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب ، أي : ذات رصد ، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم . وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه العدو . وقال الحسن : إلا أن على النار المرصاد ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجئ بجواز احتبس . وقرأ أبو عمر ، والمنقري ، وابن يعمر : أن جهنم ، بفتح الهمزة ، والجمهور بكسرها ( مآبا ) : مرجعا . وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، وزيد بن علي ، وابن وثاب ، وعمرو بن ميمون ، وعمرو بن شرحبيل ، وطلحة والأعمش ، وحمزة ، وقتيبة ، وسورة وروح : لبثين بغير ألف بعد اللام ، والجمهور : بألف بعدها ، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل ، وفعل على من شأنه ذلك ، كحاذر وحذر ( أحقابا ) تقدم الكلام عليه في الكهف عند : ( أو أمضي حقبا ) والمعنى هنا : حقبا بعد حقب ، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة ، كقول أبي تمام :


لقد أخذت من دار ماوية الحقب أنحل المغاني للبلى أم هي نهب



ويجوز أن يتعلق للطاغين ب ( مرصادا ) ، ويجوز أن يتعلق ب ( مآبا ) . ولابثين حال من الطاغين ، و ( أحقابا ) نصب على الظرف . وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب ، وجمعه أحقاب ، فينتصب حالا عنهم ، يعني لابثين فيها حقبين جحدين .

وقوله : ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) تفسير له ، والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حر النار ، ولا شرابا يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها ( حميما وغساقا ) انتهى . وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه : ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب . انتهى . وهذا [ ص: 414 ] الذي قاله هو قول للمتقدمين ، حكاه ابن عطية . قال : وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا ، فبهذه الحال يلبثون أحقابا ، ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم ، والذي يظهر أن قوله : ( لا يذوقون ) كلام مستأنف وليس في موضع الحال ، و ( إلا حميما ) استثناء متصل من قوله : ( ولا شرابا ) وأن ( أحقابا ) منصوب على الظرف حملا على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة ، وقول من قال : إن الموصوفين باللبث أحقابا هم عصاة المؤمنين ، أواخر الآي يدفعه ، وقول مقاتل : إن ذلك منسوخ بقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) فاسد ، والظاهر - وهو قول الجمهور - أن البرد هو مس الهواء القر ، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر . وقال أبو عبيدة ، والكسائي ، والفضل بن خالد ، ومعاذ النحوي : البرد هنا النوم ، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ، ومن كلامهم : منع البرد البرد ، وقال الشاعر :


فلو شئت حرمت النساء سواكم     وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا



النقاخ : الماء ، والبرد : النوم . وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل . والذوق على هذين القولين مجاز ، وقال ابن عباس : البرد : الشراب البارد المستلذ ، ومنه قول حسان بن ثابت :


يسقون من ورد البريص عليهم     بردا يصفق بالرحيق السلسل



ومنه قول الآخر :


أماني من سعدى حسان كأنما     سقتك بها سعدى على ظمأ بردا



والذوق على هذا حقيقة ، والنحويون ينشدون على هذا بيت حسان ، بردى ، بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث : وهو نهر في دمشق . وتقدم شرح الحميم والغساق ، وخلف القراء في شدة الشين وخفتها ( وفاقا ) : أي لأعمالهم وكفرهم ، وصف الجزاء بالمصدر لوافق ، أو على حذف مضاف ، أي ذا وفاق . وقال الفراء : هو جمع وفق . وقرأ الجمهور بخف الفاء ، وأبو حيوة ، وأبو بحرية ، وابن أبي عبلة : بشدها من وفقه كذا ( لا يرجون ) : لا يخافون أو لا يؤمنون ، والرجاء والأمل مفترقان ، والمعنى هنا : لا يصدقون بالحساب ، فهم لا يؤمنون ولا يخافون . وقرأ الجمهور : ( كذابا ) بشد الذال مصدر كذب ، وهي لغة لبعض العرب يمانية ، يقولون في مصدر فعل فعالا ، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل نحو تكذيب ، ومن تلك اللغة قول الشاعر :


لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي     وعن حاجة قضاؤها من شفائيا



ومن كلام أحدهم وهو يستفتي : الحلق أحب إليك أم القصار . يريد التقصير ، يعني في الحج . وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فسارا ما سمع بمثله . وقرأ علي ، وعوف الأعرابي ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وعيسى بخلاف عنه بخف الذال . قال صاحب اللوامح علي وعيسى البصرة وعوف الأعرابي : ( كذابا ) كلاهما بالتخفيف ، وذلك لغة اليمن بأن يجعلوا مصدر كذب مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا ، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل أعطيته عطاء . انتهى . وقال الأعشى :


فصدقتها وكذبتها     والمرء ينفعه كذابه



وقال الزمخشري : هو مثل قوله : ( أنبتكم من الأرض نباتا ) يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا ، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا ؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين ؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان [ ص: 415 ] المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده . انتهى . والأظهر الإعراب الأول وما سواه تكلف ، وفي كتاب ابن عطية وكتاب اللوامح : وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، وفي كتاب ابن خالويه : عمر بن عبد العزيز والماجشون ، ثم اتفقوا ( كذابا ) بضم الكاف وشد الذال ، فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة ، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر ، أي تكذيبا كذابا مفرطا في التكذيب . وقرأ الجمهور : ( وكل شيء ) بالنصب ، وأبو السمال : بالرفع ، وانتصب ( كتابا ) على أنه مصدر من معنى ( أحصيناه ) أي إحصاء ، أو يكون ( أحصيناه ) في معنى كتبناه ، والتجوز إما في المصدر وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مكتوبا في اللوح وفي مصحف الحفظة ( وكل شيء ) عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة اعتراض معترضة ، وفذوقوا مسبب عن كفرهم بالحساب فتكذيبهم بالآيات .

وقال عبد الله بن عمر : وما نزلت في أهل النار آية أشد من هذه ، ورواه أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما ذكر شيئا من حال أهل النار ذكر ما لأهل الجنة ، فقال : ( إن للمتقين مفازا ) أي موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة . و ( حدائق ) بدل من ( مفازا ) وفوزا ، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف ، أي فوز حدائق أي بها ( دهاقا ) قال الجمهور : مترعة . وقال مجاهد وابن جبير : متتابعة . وقرأ الجمهور : ( ولا كذابا ) بالتشديد ، أي لا يكذب بعضهم بعضا . وقرأ الكسائي بالتخفيف كاللفظ الأول في قوله تعالى : ( وكذبوا بآياتنا كذابا ) مصدر كذب ومصدر كاذب . قال الزمخشري : ( جزاء ) : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : ( إن للمتقين مفازا ) كأنه قال : جازى المتقين بمفاز وعطاء ، نصب بجزاء نصب المفعول به ، أي : جزاءهم عطاء . انتهى . وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة التي هي ( إن للمتقين مفازا ) والمصدر المؤكد لا يعمل ؛ لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافا . وقرأ الجمهور : ( حسابا ) وهو صفة لعطاء ، أي كافيا من قولهم : أحسبني الشيء : أي كفاني . وقال مجاهد : معنى حسابا هنا بتقسيط على الأعمال ، أو دخول الجنة برحمة الله والدرجات فيها على قدر الأعمال ، فالحساب هنا بموازنة الأعمال . وقرأ ابن قطيب : حسابا بفتح الحاء وشد السين . قال ابن جني : بنى فعالا من أفعل ، كدراك من أدرك . انتهى . فمعناه محسبا ، أي كافيا . وقرأ شريح بن يزيد الحمصي ، وأبو البرهسم : بكسر الحاء وشد السين ، وهو مصدر مثل كذاب أقيم مقام الصفة ، أي إعطاء محسبا ، أي كافيا ، وقرأ ابن عباس وسراح : حسنا بالنون من الحسن ، وحكى عنه المهدوي " حسبا " بفتح الحاء وسكون السين والباء ، نحو قولك : حسبك كذا ، أي كافيك .

وقرأ عبد الله ، وابن أبي إسحاق ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن عامر ، وعاصم : ( رب ، والرحمن ) بالجر ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمرو والحرميان برفعهما ، والأخوان : ( رب ) بالجر ، و ( الرحمن ) بالرفع ، وهي قراءة الحسن ، وابن وثاب ، والأعمش ، وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك ، و ( الرحمن ) صفة أو بدل من ( رب ) أو عطف بيان ، وهل يكون بدلا من ربك فيه نظر ، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات ، والرفع على إضمار ( هو رب ) ، أو على الابتداء ، وخبره ( لا يملكون ) ، والضمير في ( لا يملكون ) عائد على المشركين ، قاله عطاء عن ابن عباس ، أي لا يخاطب المشركون الله ، أما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم ، وقيل : عائد على المؤمنين ، أي لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه ، وقيل : عائد على أهل السماوات والأرض ، والضمير في منه عائد عليه تعالى ، والمعنى أنهم لا يملكون من الله أن يخاطبوه في شيء من الثواب [ ص: 416 ] والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه ، والعامل في ( يوم ) إما ( لا يملكون ) وإما ( لا يتكلمون ) وقد تقدم الخلاف في ( الروح ) أهو جبريل أم ملك أكبر الملائكة خلقة ؟ أو خلق على صورة بني آدم ، أو خلق حفظة على الملائكة ، أو أرواح بني آدم ، أو القرآن وقيامه ، مجاز يعني به ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه ، والظاهر عود الضمير في ( لا يتكلمون ) على ( الروح والملائكة ) وقال ابن عباس : عائد على الناس ، فلا يتكلم أحد إلا بإذن منه تعالى ، ونطق بالصواب ، وقال عكرمة : الصواب : لا إله إلا الله ، أي قالها في الدنيا ، وقال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذونا له في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى ؛ لقوله تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) . انتهى .

( ذلك اليوم الحق ) أي كيانه ووجوده ( فمن شاء ) وعيد وتهديد ، والخطاب في ( أنذرناكم ) لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم ، واندرج فيه من يأتي بعدهم ( عذابا ) : هو عذاب الآخرة لتحقق وقوعه ، وكل آت قريب ( يوم ينظر المرء ) : عام في المؤمن والكافر ( ما قدمت يداه ) من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه ، وقال الزمخشري ، وقاله قبله عطاء ، المرء هو الكافر لقوله : ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) والكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم ، ومعنى ( ما قدمت يداه ) من الشر لقوله : ( وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم ) ، وقال ابن عباس وقتادة والحسن : المرء هنا المؤمن ، كأنه نظر إلى مقابله في قوله : ( ويقول الكافر ) وقرأ الجمهور : ( المرء ) بفتح الميم ، وابن أبي إسحاق بضمها ، وضعفها أبو حاتم ، ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة ، يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة فيقولون : مرؤ ومرأ ومرء على حسب الإعراب ، وما منصوب ب ( ينظر ) ومعناه : ينتظر ما قدمت يداه ، فما موصولة ، ويجوز أن يكون ينظر من النظر ، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض ، وما استفهامية منصوبة تقدمت ، وتمنيه ذلك ، أي ترابا في الدنيا ، ولم يخلق أو في ذلك اليوم . وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني ترابا ، فتعود جميعها ترابا ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله ، وقيل : الكافر هنا إبليس ، إذا رأى ما حصل للمؤمنين من الثواب قال : ( الكافر ياليتني كنت ترابا ) كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولا ، وقيل : ( ترابا ) أي متواضعا لطاعة الله تعالى ، لا جبارا ولا متكبرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية