صفحة جزء
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالا فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا ، ومضمنها أن ناسا من الكفار خدوا أخدودا في الأرض وسجروه نارا وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصر على الإيمان أحرقوه ، وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين . وقال الربيع ، وأبو العالية ، وابن إسحاق : بعث الله على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود ، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن ، ويكون خبرا عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم . وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه . وقرأ الجمهور : ( النار ) بالجر ، وهو بدل اشتمال ، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف ، أي أخدود النار . وقرأ قوم : ( النار ) بالرفع . قيل : وعلى معنى قتلهم ، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين ، وقتل على حقيقته . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وعيسى : ( الوقود ) بضم الواو وهو مصدر ، والجمهور : بفتحها ، وهو ما يوقد به . وقد حكى [ ص: 451 ] سيبويه أنه بالفتح أيضا مصدر كالضم ، والظاهر أن الضمير في ( إذ هم ) عائد على الذين يحرقون المؤمنين ، وكذلك في ( وهم ) على قول الربيع يعود على الكافرين ، ويكون هم أيضا عائدا عليهم ، ويكون معنى ( على ما يفعلون ) ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين . وقيل : أصحاب الأخدود محرق ، وتم الكلام عند قوله : ( ذات الوقود ) ويكون المراد بقوله : ( وهم ) قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، و " إذ " العامل فيه " قتل " ، أي لعنوا وقعدوا على النار ، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كما قال الأعشى :


تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق



( شهود ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم . وقرأ الجمهور : ( نقموا ) بفتح القاف ، وزيد بن علي ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : ( هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ) وكقول قيس الرقيات :


ما نقموا من بني أمية إلا     أنهم يحلمون إن غضبوا



جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحا حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر :


ولا عيب فيها غير شكلة عينها     كذاك عتاق الطير شكل عيونها



وفي المنتخب : إنما قال ( إلا أن يؤمنوا ) لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يديموا على إيمانهم . انتهى . وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه ، حميدا منعما يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السماوات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريرا ؛ لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي .

( والله على كل شيء شهيد ) وعيد لهم أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم . والظاهر أن ( الذين فتنوا ) عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذابا لكفرهم ، وعذابا لفتنتهم . وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم . ( فلهم ) في الآخرة ( عذاب جهنم ) بكفرهم ( ولهم عذاب الحريق ) وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم . انتهى . وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوزه ؛ لأن في الآية ( ثم لم يتوبوا ) وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر . وقال ابن عطية : ( ثم لم يتوبوا ) يقوي أن الآيات في قريش ؛ لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم . وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن . انتهى . وكذلك قوله : ( إن الذين آمنوا ) المراد به العموم لا المطروحون في النار ، والبطش : الأخذ بقوة ( يبدئ ويعيد ) قال ابن زيد والضحاك : يبدئ الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر . وقال ابن عباس : عام في جميع الأشياء ، أي كل ما يبدأ وكل ما يعاد . وقال الطبري : يبدئ العذاب ويعيده على الكفار ، ونحوه عن ابن عباس قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ، ثم يعيدهم خلقا جديدا . وقرئ : ( يبدأ ) من بدأ ثلاثيا ، حكاه أبو زيد .

ولما ذكر شدة بطشه ذكر كونه ، غفورا ساترا لذنوب عباده ، ودودا لطيفا بهم محسنا إليهم ، وهاتان صفتا فعل . والظاهر أن الودود مبالغة في الواد ، وعن ابن عباس : المتودد إلى عباده بالمغفرة . وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد :

[ ص: 452 ]

وأركب في الروع عريانة     ذلول الجماع لقاحا ودودا



أي : لا ولد لها تحن إليه . وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون ( ذو العرش ) خص العرش بإضافة نفسه تشريفا للعرش وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات . وقرأ الجمهور : ( ذو ) بالواو ، وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك . وقال القفال : ( ذو العرش ) ذو الملك والسلطان . ويجوز أن يراد بالعرش السرير العالي ، ويكون خلق سريرا في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه . انتهى . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد ، وابن وثاب ، والأعمش والمفضل عن عاصم ، والأخوان : ( المجيد ) بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا . ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون ( المجيد ) بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخبارا عن هو ، فيكون ( فعال ) خبرا . ويجوز أن يكون ( الودود ذو العرش ) صفتين للغفور ، " وفعال " خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال ؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه .

( هل أتاك حديث الجنود ) تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم ، والجنود : الجموع المعدة للقتال ( فرعون وثمود ) بدل من الجنود ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن ، وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضا ، ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله :


ألم تر أن الله أهلك تبعا     وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى     وفرعون جبارا طغى والنجاشيا



وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم . ( بل الذين كفروا ) أي من قومك ، ( في تكذيب ) حسدا لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم . ( والله من ورائهم محيط ) أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطا به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعا ، والمعنى : دنو هلاكهم ، ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان صلى الله عليه وسلم ، قد كذبوه وكذبوا ما جاء به وهو القرآن ، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال : ( بل هو قرآن ) أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ، ومجادته : شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه ، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه ، وقرأ الجمهور : ( قرآن مجيد ) موصوف وصفة ، وقرأ ابن السميقع : ( قرآن مجيد ) بالإضافة ، قال ابن خالويه : سمعت ابن الأنباري يقول معناه : بل هو قرآن رب مجيد ، كما قال الشاعر :

ولكن الغنى رب غفور

معناه : ولكن الغنى غنى رب غفور . انتهى . وعلى هذا أخرجه الزمخشري ، وقال ابن عطية : وقرأ اليماني : ( قرآن مجيد ) على الإضافة ، وأن يكون الله تعالى هو المجيد . انتهى . ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ، فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع ( مجيد ) واحدا ، وهذا أولى لتوافق القراءتين ، وقرأ الجمهور : ( في لوح ) بفتح اللام ، ( محفوظ ) بالخفض صفة للوح ، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء ، وقرأ ابن يعمر وابن السميقع : بضم اللام ، قال ابن خالويه : اللوح : الهواء . وقال الزمخشري : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح [ ص: 453 ] المحفوظ من وصول الشياطين إليه . انتهى . وقرأ الأعرج ، وزيد بن علي ، وابن محيصن ، ونافع بخلاف عنه : ( محفوظ ) بالرفع صفة لقرآن ، كما قال تعالى : ( وإنا له لحافظون ) ، أي هو محفوظ في القلوب ، لا يلحقه خطأ ولا تبديل .

التالي السابق


الخدمات العلمية