صفحة جزء
( إنه يعلم الجهر ) أي جهرك بالقرآن ، ( وما يخفى ) أي في نفسك من خوف التفلت ، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه ، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء . ( ونيسرك ) معطوف على ( سنقرئك ) ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض ، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني في حفظ الوحي ، وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة ، وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة ، ولما أخبر أنه يقرئه وييسره ، أمره بالتذكير ، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم ، والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى ، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش ، أي ( إن نفعت الذكرى ) في هؤلاء الطغاة العتاة ، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى ، فهو كما قال الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك ، فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع . وقال الفراء والنحاس ، والزهراوي ، والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني ، وقيل : إن بمعنى إذ ، كقوله : ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) أي إذ كنتم ؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلين إلا بعد إيمانهم ، ( سيذكر من يخشى ) أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف ، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه ، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق ، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له . ( ويتجنبها ) أي الذي ( الأشقى ) أي المبالغ في الشقاوة ؛ لأن الكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم ، هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله ، ثم وصفه بما يئول إليه حاله في الآخرة ، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى ، قال الحسن : النار الكبرى نار الآخرة ، والصغرى نار الدنيا . وقال الفراء : الكبرى السفلى من أطباق النار . وقيل : نار الآخرة تتفاضل ، ففيها شيء أكبر من شيء .

( ثم لا يموت ) فيستريح ، ( ولا يحيا ) حياة هنيئة ، وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذانا بتفاوت مراتب الشدة ؛ لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي [ ص: 460 ] بالنار ، ( قد أفلح ) أي فاز وظفر بالبغية ، ( من تزكى ) تطهر ، قال ابن عباس : من الشرك ، وقال : لا إله إلا الله . وقال الحسن : من كان عمله زاكيا . وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة : من رضخ من ماله وزكاه . ( وذكر اسم ربه ) أي وحده لم يقرنه بشيء من الأنداد ، ( فصلى ) أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل ، والمعنى : أنه لما تذكر آمن بالله ، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة ، واحتج بقوله : ( وذكر اسم ربه ) على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى ، وأنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح ، وهو احتجاج ضعيف ، وقال ابن عباس : ( وذكر اسم ربه ) أي معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له . وقرأ الجمهور : ( بل تؤثرون ) بتاء الخطاب للكفار ، وقيل : خطاب للبر والفاجر ، يؤثرها البر لاقتناء الثواب ، والفاجر لرغبته فيها ، وقرأ عبد الله ، وأبو رجاء ، والحسن ، والجحدري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو ، والزعفراني ، وابن مقسم : بياء الغيبة . ( إن هذا ) أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا ، قاله ابن زيد وابن جرير ، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا ، وقال ابن عباس وعكرمة والسدي : إلى معاني السورة ، وقال الضحاك : إلى القرآن ، وقال قتادة : إلى قوله : ( والآخرة خير وأبقى ) . ( لفي الصحف الأولى ) لم ينسخ إفلاح من تزكى والآخرة خير وأبقى في شرع من الشرائع ، فهو في الأولى وفي آخر الشرائع ، وقرأ الجمهور : ( الصحف ) بضم الحاء كالحرف الثاني ، والأعمش وهارون وعصمة ، كلاهما عن أبي عمرو : بسكونها ، وفي كتاب اللوامح : العقيلي عن أبي عمرو : ( الصحف ) ، ( صحف ) بإسكان الحاء فيهما لغة تميم ، وقرأ الجمهور : ( إبراهيم ) بألف وبياء ، والهاء مكسورة ، وأبو رجاء : بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معا ، وأبو موسى الأشعري وابن الزبير : ( أبراهام ) بألف في كل القرآن ، ومالك بن دينار : ( إبراهم ) بألف وفتح الهاء وبغير ياء ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة : ( إبراهم ) بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن ، قال ابن خالويه : وقد جاء ( إبراهيم ) ، يعني بألف وضم الهاء ، وتقدم في ( والنجم ) الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية