صفحة جزء
( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ) : لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة ، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق ، واتخاذه الأنداد من دون الله ، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين . والضد يظهر حسنه الضد ، وأنه مع وضوح هذه الآيات ، لم يشاهد هذا الضال شيئا منها . ولفظ الناس عام ، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان . فالأنداد ، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم ، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي ، وإن خالف أمر الله ونهيه . قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) . والأنداد ، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام ، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله . وقيل : المراد بالناس الخصوص . فقيل : أهل الكتاب . وقيل : عباد الأوثان ، والأولى القول الأول . ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله : يحبونهم ، فأتى بضمير العقلاء ، وباستبعاد محبة الأصنام ، وبقوله : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب ) ، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء . و " من " : مبتدأ موصول ، أو نكرة موصوفة ، وأفرد يتخذ حملا على لفظ من ، و " من دون الله " متعلق بـ " يتخذ " ، و " دون " هنا بمعنى غير ، وأصلها أن تكون ظرف مكان ، وهي نادرة التصرف إذ ذاك . قال ابن عطية : و " من دون " : لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام ، وتفسير دون بسوى ، أو بغير ، لا يطرد . انتهى . تقول : فعلت هذا من دونك ، أي وأنت غائب . وتقول : اتخذت منك صديقا ، واتخذت من دونك صديقا . فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقا . وتقول : قام القوم دون زيد . فالذي يفهم من هذا : أن المعنى أن زيدا لم يقم ، فدلالتها دلالة " غير " في هذا . والذي ذكر النحويون ، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان ، وأنها قليلة التصرف نادرته . وقد حكى سيبويه أيضا أنها تكون بمعنى رديء ، تقول : هذا ثوب دون أي رديء ، فإذا كانت ظرفا ، دلت على انحطاط المكان ، فتقول : قعد زيد دونك ، فالمعنى : قعد زيد مكانا دون مكانك ، أي منحطا عن مكانك . وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول : زيد دون عمرو في الشرف ، تريد المكانة لا المكان . ( ووجه استعمالها بمعنى " غير " انتقالها عن الظرفية فيه خفاء ونحن نوضحه ) فنقول : إذا قلت : اتخذت من دونك صديقا ، فأصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقا ، فهو ظرف مجازي . وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه ، لزم أن يكون غيرا ; لأنه ليس إياه ، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيرا ، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب ، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك . وانتصب " أندادا " هنا على المفعول بـ يتخذ ، وهي هنا متعدية إلى واحد ، نحو قولك : اتخذت منك صديقا ، وهي افتعل من الأخذ ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ ، فأغنى عن إعادته . قال ابن عباس والسدي : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى . وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الأوثان ، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل . وقد تقدم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد : المجموع من الأوثان والرؤساء ، وتكون الآية عامة . وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في : ( يحبونهم ) ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم . والجملة من " يحبونهم " صفة للأنداد ، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ ، ويجوز أن تكون صفة لمن ، إذا جعلتها نكرة موصوفة . وجاز ذلك ; لأن في يحبونهم ضمير أنداد ، أو ضمير من ، وأعاد الضمير على من جمعا على المعنى ، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ ، إذ أفرد الضمير ، وقد وقع الفصل بين الجملتين ، وهو شرط على مذهب الكوفيين .

( كحب الله ) ، الكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف ، على رأي سيبويه ، أو على أنه نعت لمصدر [ ص: 470 ] محذوف ، على رأي جمهور المعربين ، التقدير : على الأول يحبونهموه ، أي الحب مشبها حب الله ، وعلى الثاني تقديره : حبا مثل حب الله ، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب ، والفاعل محذوف ، التقدير : كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، والمعنى أنهم سووا بين الحبين ، حب الأنداد وحب الله . وقال ابن عطية : حب : مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر ، تقديره : كحبكم الله ، أو كحبهم ، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة . انتهى كلامه . فقوله : مضاف إلى الفاعل المضمر ، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل ، وإنما سماه مضمرا لما قدره كحبكم أو كحبهم ، فأبرزه مضمرا حين أظهر تقديره ، أو يعني بالمضمر المحذوف ، وهو موجود في اصطلاح النحويين ، أعني أن يسمى الحذف إضمارا . وإنما قلت ذلك ; لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف ، وإنما يكون مضمرا في المصدر . ورد ذلك بأن المصدر هو اسم جنس ، كالزيت والقمح ، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها . وقال الزمخشري : كحب الله : كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه ; لأنه غير ملبس . وقيل : كحبهم الله ، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم ; لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه ، ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) . انتهى كلامه . واختار كون المصدر مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي مسألة خلاف . أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول ؟ فيجوز : عجبت من ضرب زيد ، على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ثم يضاف إليه ، أم لا يجوز ذلك ؟ فيه ثلاثة مذاهب ، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ; لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل ، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول ، ويمتنع في الثاني ، وأصحها المنع مطلقا . وتقرير هذا كله في النحو . وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين ، أو ضميرهم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والمبرد ، وقال : ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين ، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله ; لأنهم أشركوها مع الله تعالى ، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها . وقرأ أبو رجاء العطاردي : يحبونهم ، بفتح الياء ، وهي لغة ، وفي المثل السائر : من حب طب ، وجاء مضارعه على يحب ، بكسر العين شذوذا ; لأنه مضاعف متعد ، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو : مده يمده ، وجر يجره .

( والذين آمنوا أشد حبا لله ) : قال الراغب : الحب أصله من المحبة ، حببته : أصبت حبة قلبه ، وأصبته بحبة القلب ، وهي في اللفظ فعل ، وفي الحقيقة انفعال . وإذا استعمل في الله ، فالمعنى : أصاب حبة قلب عبده ، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله . انتهى . وقال عبد الجبار : حب العبد لله : تعظيمه والتمسك بطاعته ، وحب الله العبد : إرادة الثناء عليه وإثابته . وأصل الحب في اللغة : اللزوم ; لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن . اهـ . والمفضل عليه محذوف ، وهم المتخذون الأنداد ، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف . فقيل : معنى " أشد حبا لله " : أي منهم لله ; لأن حبهم لله بواسطة ، قاله الحسن ; أو منهم لأوثانهم ، قاله غيره . ومقتضى التمييز بالأشدية ، إفراد المؤمنين له بالمحبة ، أو لمعرفتهم بموجب الحب ، أو لمحبتهم إياه بالغيب ، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة ، إذ قال تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) ، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء ، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه ، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضار النافع ، أو لكون حبه بالعقل والدليل ، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمر الله تعالى من عبده لا يشرك به شيئا أن يقتحم النار ، فيبادرون إليه ، [ ص: 471 ] فتبرد عليهم النار ، فينادي مناد تحت العرش : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) ، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون ، قاله ابن جبير . تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد . وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين ، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصة . والمجموع هو المقتضي لتمييز الحب ، فلا تباين بين الأقوال على هذا ; لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه ، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز .

وقال في المنتخب جمهور المتكلمين : على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته . فإذا قلنا : يحب الله ، فمعناه : يحب طاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه . وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا : نحب الله لذاته ، كما نحب اللذة لذاتها ; لأنه تعالى موصوف بالكمال ، والكمال محبوب لذاته . انتهى كلامه . وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى " أشد حبا " ، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من واد واحد . وأنت لو قلت : ما أحب زيدا لم يكن ذلك تعجبا من فعل الفاعل ، إنما يكون تعجبا من فعل المفعول ، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول ، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل . لا تقول : ما أضرب زيدا ، على أن زيدا حل به الضرب . وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز " زيد أحب لعمرو ; لأنه يكون المعنى : أن زيدا هو المحبوب لعمرو . فلما لم يجز ذلك ، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك ، فتقول : ما أشد حب زيد لعمرو ، وزيد أشد حبا لعمرو من خالد لجعفر . على أنهم قد شذوا فقالوا : ما أحبه إلي ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس ، ويعدل على الصحيح الفصيح . وانتصاب حبا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ ، تقديره : حبهم لله أشد من حب أولئك لله ، أو لأندادهم على اختلاف القولين .

( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ) : قرأ نافع وابن عامر : وإذ ترون ، بالتاء من فوق أن القوة ، وأن بفتحهما . وقرأ ابن عامر : إذ يرون ، بضم الياء . وقرأ الباقون : بالفتح . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ولو ترى ، بالتاء من فوق " إن القوة " ، وإن بكسرهما . وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو ، وابن كثير : ولو يرى ، بالياء من أسفل أن القوة ، وأن بفتحهما . وقرأت طائفة : ولو يرى ، بالياء من أسفل إن القوة ، وإن بكسرهما . ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فلا بد لها من جواب ، واختلف في تقديره . فمنهم من قدره قبل أن القوة ، فيكون أن القوة معمولا لذلك الجواب ، التقدير : على قراءة من قرأ بالتاء من فوق ، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعا ، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في " ولو ترى " له . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك ، ولكن خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا . ومن قرأ بالكسر قدر الجواب : لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله : ولو ترى من هو ؟ أهو السامع أم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أو يكون التقدير : لاستعظمت حالهم . وأن القوة ، وإن كانت مكسورة ، فيها معنى التعليل مثل : لو قدمت على زيد لأحسن إليك ، إنه مكرم للضيفان . وقال ابن عطية : تقدير ذلك : ولو ترى الذين ظلموا ، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له ، لأقروا أن القوة لله . فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في إن انتهى . وفيه مناقشة ، وهو قوله : في حال رؤيتهم العذاب . وكان ينبغي أن يقدر بمرادف ; إذ وهو قوله : في وقت رؤيتهم العذاب ، وأيضا فقدر جواب لو ، وهو غير مترتب على ما يلي لو ; لأن رؤية السامع ، أو النبي - صلى الله عليه وسلم - الظالمين في وقت رؤيتهم ، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعا صار نظير قولك : يا زيد لو ترى عمرا في وقت ضربه لأقر أن الله قادر عليه ، وإقراره بقدرة الله ليست [ ص: 472 ] مترتبة على رؤية زيد . وعلى من قرأ : ولو يرى ، بالياء من أسفل وفتح أن يكون تقدير الجواب : لعلموا أن القوة لله جميعا ، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا ، وإن كان ضميرا يقدر ولو يرى هو ، أي السامع ، كان التقدير : لعلم أن القوة لله جميعا . ومنهم من قدر الجواب محذوفا بعد قوله ( وأن الله شديد العذاب ) ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ، وأبي العباس المبرد ، وتقديره : على قراءة " ولو ترى " بالخطاب ، لاستعظمت ما حل بهم ، وعلى قراءة " ولو يرى " للغائب ، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير : لاستعظم ذلك ، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل ، كان التقدير : لاستعظموا ما حل بهم . وإذا كان الجواب مقدرا آخر الكلام ، وكانت أن مفتوحة ، فتوجيه فتحها على تقديرين : أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء ، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا . وأما من قرأ بالتاء ، فتكون أن مفعولا من أجله ، أي ; لأن القوة لله جميعا ، ومن كسر إن مع قراءة التاء في ترى ، وقدر الجواب آخر الكلام ، فهي وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة ، دالة على التعليل ، تقول : لا تهن زيدا إنه عالم ، ولا تكرم عمرا إنه جاهل ، فهي على معنى المفتوحة من التعليل ، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف . وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين ، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو ، أي لقالوا إن القوة ، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف ، أي لاستعظموا ذلك ، ومفعول ترى محذوف ، أي ولو رأى الظالمون حالهم . وترى في قوله : " ولو ترى " ، يحتمل أن تكون بصرية ، وهو قول أبي علي ، ويحتمل أن تكون عرفانية . وإذا جعلت أن معمولة ليرى ، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين ، سدت أن مسدهما ، على مذهب سيبويه . والذين ظلموا ، إشارة إلى متخذي الأنداد ، ونبه على العلية ، أو يكون عاما ، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار . ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد . وقراءة ابن عامر : " إذ يرون " مبنيا للمفعول ، هو من أريت المنقولة من رأيت ، بمعنى أبصرت . ودخلت إذ - وهي للظرف الماضي - في أثناء هذه المستقبلات ; تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه ، كما يقع الماضي موقع المستقبل في قوله : ( ونادى أصحاب النار ) ، وكما جاء :


بقيت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت أضيافي بوجه عبوس



; لأنه علق ذلك على مستقبل ، وهو قوله :


إن لم أشن على ابن هند غارة     لم تخل يوما من نهاب نفوس



وحذف جواب لو ، لفهم المعنى ، كثير في القرآن ، وفي لسان العرب . قال تعالى : ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت ) ، ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) ، ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) ، وقال امرؤ القيس :


وجدك لو شيء أتانا رسوله     سواك ولكن لم نجد لك مدفعا



هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب ، ونحن نذكر من كلام المفسرين . قال عطاء : المعنى : ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة ، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة ، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعا . وقيل : لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه ، إذ يرون العذاب ، لأقروا بأن القوة لله جميعا ، أي لتبرءوا من الأنداد ، والثانية من رؤية العين . وقال التبريزي : لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة ، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب . وقال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم ، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدة عقابه للظالمين ، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة [ ص: 473 ] ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم . انتهى كلامه . وحكى الراغب : أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين ، قال : وهو ضعيف . انتهى . ويصير المعنى : ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا . وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم . انتهى . ولا فرق عندنا بين القراءتين ، أعني التاء والياء ; لأنهما متواترتان . وانتصاب جميعا على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور . والقوة هنا مصدر أريد به الجنس ، التقدير : أن القوى مستقرة لله جميعا ، ولا يجوز أن تكون حالا من القوة ; لأن العامل في القوة أن ، وأن لا تعمل في الأحوال . وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت : إن الله قوي ، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف . و " أن القوة لله " تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى ، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك ; لأن شدة العذاب هي من آثار القوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية