صفحة جزء
والشفع والوتر : ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا ، وعن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( هي الصلوات منها الشفع ، ومنها الوتر ) . وروى أبو أيوب عنه : ( الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر ) . وروى جابر عنه صلى الله عليه وسلم : ( الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ) . وفي هذا الحديث تفسيره - عليه الصلاة والسلام - الفجر بالصبح والليالي العشر بعشر النحر ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، واختاره النحاس ، وقال حديث أبي الزبير عن جابر : هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين : ( صوم عرفة وتر لأنه تاسعها ، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها ) . وذكر ابن عطية في الشفع والوتر أربعة عشر قولا ، و الزمخشري ثلاثة أقوال ، ثم قال : وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه . انتهى .

( والليل إذا يسر ) قسم بجنس الليل ، ويسري : يذهب وينقرض ، كقوله : ( والليل إذ أدبر ) . وقال الأخفش وابن قتيبة : يسري فيه ، فيكون من باب ليلك نائم . وقال مجاهد ، و عكرمة ، والكلبي : المراد ليلة جمع ؛ لأنه يسري فيها ، وجواب القسم محذوف . قال الزمخشري : وهو لنعذبن ، يدل عليه قوله : ( ألم تر ) إلى قوله : ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) . وقال ابن الأنباري : الجواب : ( إن ربك لبالمرصاد ) والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية ، وهو قوله : ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) وتقديره : لإيابهم إلينا وحسابهم علينا . وقول مقاتل : هل هنا في موضع تقديره : إن في ذلك قسما لذي حجر . فهل [ ص: 469 ] على هذا في موضع جواب القسم ، قول لم يصدر عن تأمل ؛ لأن المقسم عليه على تقدير أن يكون التركيب إن في ذلك قسما لذي حجر لم يذكر ، فيبقى قسم بلا مقسم عليه ، لأن الذي قدره من أن في ذلك قسما لذي حجر لا يصح أن يكون مقسما عليه ، وهل في ذلك تقرير على عظم هذه الأقسام ، أي هل فيها مقنع في القسم لذي عقل فيزدجر ويفكر في آيات الله . ثم وقف المخاطب على مصارع الأمم الكافرة الماضية مقصودا بذلك توعد قريش ، ونصب المثل لها ، وعاد هو عاد بن عوص ، وأطلق ذلك على عقبه ، ثم قيل للأولين منهم عادا الأولى ، وإرم نسبة لهم باسم جدهم ، ولمن بعدهم عاد الأخيرة ، وقال مجاهد وقتادة : هي قبيلة بعينها ، وقال ابن إسحاق : إرم هو أبو عاد كلها .

وقال الجمهور : إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن . وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية . وقال ابن المسيب والمقبري : هي دمشق . وقال مجاهد أيضا : إرم معناه القديمة . وقرأ الجمهور : بعاد مصروفا ، إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية ؛ لأنه اسم للقبيلة ، وعاد ، وإن كان اسم القبيلة فقد يلحظ فيه معنى الحي فيصرف أو لا يلحظ ، فجاء على لغة من صرف هندا ، " وإرم " عطف بيان أو بدل . وقرأ الحسن : ( بعاد ) غير ممنوع الصرف مضافا إلى إرم ، فجاز أن يكون إرم جدا ومدينة ، والضحاك : إرم بفتح الراء وما بعدها ممنوعي الصرف . وقرأ ابن الزبير : ( بعاد ) بالإضافة ، أرم بفتح الهمزة وكسر الراء ، وهي لغة في المدينة ، والضحاك : ( بعاد ) مصروفا ، و ( بعاد ) غير مصروف أيضا ، ( أرم ) بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف أرم بكسر الراء ، وعن ابن عباس والضحاك : أرم فعلا ماضيا ، أي بلي ، يقال : رم العظم وأرم هو : أي بلي ، وأرمه غيره معدى بالهمزة من رم الثلاثي . و ( ذات ) على هذه القراءة مكسورة التاء ، وابن عباس أيضا : فعلا ماضيا ، ( ذات ) بنصب التاء على المفعول به ، و ( ذات ) بالكسر صفة لإرم ، وسواء كانت اسم قبيلة أو مدينة ، وإن كان يترجح كونها مدينة بقوله : ( لم يخلق مثلها في البلاد ) فإذا كانت قبيلة صح إضافة عاد إليها وفكها منها بدلا أو عطف بيان ، وإن كانت مدينة فالإضافة إليها ظاهرة والفك فيها يكون على حذف مضاف ، أي بعاد أهل إرم ذات العماد .

وقرئ : ( إرم ذات ) بإضافة إرم إلى ذات ، والإرم : العلم ، يعني بعاد أعلام ذات العماد ، ومن قرأ : ( أرم ) فعلا ماضيا ، ( ذات ) بالنصب ، أي جعل الله ذات العماد رميما ، ويكون ( أرم ) بدلا من ( فعل ربك ) وتبيينا لفعل ، وإذا كانت ( ذات العماد ) صفة للقبيلة ، فقال ابن عباس : هي كناية عن طول أبدانهم ، ومنه قيل : رفيع العماد ، شبهت قدودهم بالأعمدة ، ومنه قولهم : رجل عمد وعمدان أي طويل . وقال عكرمة ومقاتل : أعمدة بيوتهم التي كانوا يرحلون بها ؛ لأنهم كانوا أهل عمود . وقال ابن زيد : أعمدة بنيانهم ، وإذا كانت صفة للمدينة ، فأعمدة الحجارة التي بنيت بها ، وقيل : القصور العالية والأبراج يقال لها عماد . وحكي عن مجاهد أرم ، مصدر أرم يأرم إذا هلك ، والمعنى : كهلاك ذات العماد ، وهذا قول غريب ، كأن معنى ( كيف فعل ربك بعاد ) كيف أهلك عادا كهلاك ذات العماد ، وذكر المفسرون أن ذات العماد مدينة ابتناها شداد بن عاد لما سمع بذكر الجنة على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يبنى في الأرض مثلها ، وأن الله تعالى بعث عليها وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلها هلكوا جميعا ، ويوقف على قصتهم في كتاب التحرير ، وشيء منها في الكشاف .

وقرأ الجمهور : ( لم يخلق ) مبنيا للمفعول ، ( مثلها ) رفع ، وابن الزبير : مبنيا للفاعل ، ( مثلها ) نصبا ، وعنه : نخلق بالنون والضمير في مثلها عائد على المدينة التي هي ذات العماد في البلاد ، أي في بلاد الدنيا ، أو عائد على القبيلة ، أي في عظم أجسام وقوة . وقرأ ابن وثاب : ( وثمود ) بالتنوين . والجمهور : بمنع الصرف . ( جابوا الصخر ) خرقوه ونحتوه ، فاتخذوا في الحجارة منها بيوتا ، كما قال تعالى : ( وتنحتون من الجبال ) بيوتا ، قيل : [ ص: 470 ] أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بالوادي ، وادي القرى ، وقيل : جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه ، فعل ذي القوة والآمال ( ذي الأوتاد ) تقدم الكلام على ذلك في سورة ص ، ( الذين ) صفة لعاد وثمود وفرعون ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع على إضمار هم ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) أبهم هنا وأوضح في الحاقة وفي غيرها ، ويقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، واستعمل الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب ، قال :


فصب عليهم محصرات كأنها شآبيب ليست من سحاب ولا قطر



يريد : المحدودين في قصة الإفك ، وقال بعض المتأخرين في صفة الحبل :


صببنا عليهم ظالمين شياطنا     فطارت بها أيد سراع وأرجل



وخص السوط فاستعير للعذاب ؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره . وقال الزمخشري : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به ، والمرصاد والمرصد : المكان الذي يترتب فيه الرصد ، مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المرصاد في الآية اسم فاعل ، كأنه قال : لبالراصد ، فعبر ببناء المبالغة . انتهى . ولو كان كما زعم لم تدخل الباء ؛ لأنها ليست في مكان دخولها ، لا زائدة ولا غير زائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية