صفحة جزء
[ ص: 516 ] سورة الماعون وهي سبع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون )

سها عن كذا يسهو سهوا : لها عنه وتركه عن غفلة ، الماعون : فاعول من المعن ، وهو الشيء القليل ، تقول العرب : ما له معن ، أي شيء قليل ، وقاله قطرب ، وقيل : أصله معونة والألف عوض من الهاء ، فوزنه مفعل في الأصل على مكرم ، فتكون الميم زائدة ، ووزنه بعد زيادة الألف عوضا مافعل ، وقيل : هو اسم مفعول من أعان يعين ، جاء على زنة مفعول ، قلب فصارت عينه مكان الفاء فصار موعون ، ثم قلبت الواو ألفا ، كما قالوا في بوب باب فصار ماعونا ، فوزنه على هذا مفعول ، وقال أبو عبيدة ، والزجاج ، والمبرد : الماعون في الجاهلية : كل ما فيه منفعة حتى الفاس والدلو والقدر والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل أو كثير ، وأنشدوا بيت الأعشى :


بأجود منه بماعونه إذا ما سماؤهم لم تغم



وقالوا : المراد به في الإسلام الطاعة ، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى عز وجل ( أرءيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة ، قال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق ، ولما عدد تعالى نعمه على قريش ، وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، أتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه ، ونزلت في أبي جهل ، أو الوليد بن المغيرة ، أو العاصي بن وائل ، أو عمر بن عائذ ، أو رجلين من المنافقين ، أو أبي سفيان بن حرب ، كان ينحر في كل أسبوع جزورا ، فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصا ، أقوال آخرها لابن جريج ، والظاهر أن ( أرأيت ) هي التي بمعنى أخبرني ، فتتعدى لاثنين ، أحدهما الذي ، والآخر محذوف ، فقدره الحوفي : أليس مستحقا عذاب الله ، وقدره الزمخشري : من هو ، ويدل على أنها بمعنى أخبرني ، قراءة [ ص: 517 ] عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب ، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية ، قال الحوفي : ويجوز أن تكون من رؤية البصر ، فلا يكون في الكلام حذف ، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة .

والدين : الجزاء بالثواب والعقاب ، وقال الزمخشري : والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء ؟ هو الذي ( يدع اليتيم ) أي يدفعه دفعا عنيفا بجفوة أو أذى ( ولا يحض ) أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين ، جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف . انتهى . وقرأ الجمهور : ( يدع ) بضم الدال وشد العين ، وعلي والحسن وأبو رجاء واليماني : بفتح الدال وخف العين ، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه ويجفوه ، وقرأ الجمهور : ( ولا يحض ) مضارع حض ، وزيد بن علي : ( يحاض ) مضارع حاضضت . وقال ابن عباس : ( بالدين ) بحكم الله ، وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن ، وقال إبراهيم بن عرفة : ( يدع اليتيم ) يدفعه عن حقه ، وقال مجاهد : يدفعه عن حقه ولا يطعمه ، وفي قوله : ( ولا يحض ) إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره ، وهذا من باب الأولى ؛ لأنه إذا لم يحض غيره بخلا ، فلأن يترك هو ذلك فعلا أولى وأحرى ، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه .

ولما ذكر أولا عمود الكفر ، وهو التكذيب بالدين ، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق ، وهو عبادته بالصلاة ، فقال : ( فويل للمصلين ) والظاهر أن المصلين هم غير المذكور ، وقيل : هو داع اليتيم غير الحاض ، وأن كلا من الأوصاف الذميمة ناشئ عن التكذيب بالدين ، فالمصلون هنا ، والله أعلم ، هم المنافقون ، ثبت لهم الصلاة ، وهي الهيئات التي يفعلونها ، ثم قال : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) نظرا إلى أنهم لا يوقعونها ، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى ، وفي الحديث عن صلاتهم ساهون : ( يؤخرونها عن وقتها تهاونا بها ) . قال مجاهد : تأخير ترك وإهمال . وقال إبراهيم : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتا . وقال قتادة : هو الترك لها ، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل . وقال قطرب : هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى . وقال ابن عباس : المنافقون يتركون الصلاة سرا ويفعلونها علانية ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) ويدل على أنها في المنافقين . قوله تعالى : ( الذين هم يراءون ) وقاله ابن وهب عن مالك ، قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين . وقال عطاء : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم . وقال الزمخشري : بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن ( فذلك الذي يدع ) في موضع رفع ، قال : وطريقة أخرى أن يكون ( فذلك ) عطفا على ( الذي يكذب ) ، إما عطف ذات على ذات ، أو عطف صفة على صفة ، ويكون جواب ( أرأيت ) محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، كأن قال : أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء ، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ، أنعم ما يصنع ؟ ثم قال : ( فويل للمصلين ) أي إذا علم أنه مسيء ( فويل للمصلين ) على معنى : فويل لهم إلا أنه وضع صفتهم موضع [ ص: 518 ] ضميرهم ؛ لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم ، فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائما مقام ضمير ( الذي يكذب ) وهو واحد ؟ قلت : معناه الجمع ، لأن المراد به الجنس . انتهى . فجعل ( فذلك ) في موضع نصب عطفا على المفعول ، وهو تركيب غريب ، كقولك : أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا ، فالمتبادر إلى الذهن أن ( فذلك ) مرفوع بالابتداء ، وعلى تقدير النصب يكون التقدير : أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا ، فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح ، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا ، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا ، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا ، وأما قوله : إما عطف ذات على ذات فلا يصح ؛ لأن ( فذلك ) إشارة إلى ( الذي يكذب ) ، فليسا بذاتين ؛ لأن المشار إليه بقوله : ( فذلك ) هو واحد ، وأما قوله : ويكون جواب ( أرأيت ) محذوفا ، فلا يسمى جوابا ، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت ، وأما قوله : أنعم ما يصنع ؟ فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس ؛ لأنهما إنشاء ، والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر ، وأما وضعه ( المصلين ) موضع الضمير ، وأن المصلين جمع ؛ لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع ، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب ، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة .

وتقدم الكلام في الرياء في سورة البقرة ، وقرأ الجمهور : ( يراءون ) مضارع رآى ، على وزن فاعل ، وابن أبي إسحاق والأشهب : مهموزة مقصورة مشددة الهمزة ، وعن ابن أبي إسحاق : بغير شد في الهمزة ، فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية ، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى : أرى ، فقالوا : رآى ، فجاء المضارع يرإي كيصلي ، وجاء الجمع يروون كيصلون ، وتوجيه الثانية أنه استثقل التضعيف في الهمزة فخففها ، أو حذف الألف من يراءون حذفا لا لسبب . ( ويمنعون الماعون ) قال ابن المسيب وابن شهاب : الماعون ، بلغة قريش : المال . وقال الفراء عن بعض العرب : الماعون : الماء . وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الحنفية ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد : ما يتعاطاه الناس بينهم ، كالفأس والدلو والآنية . وفي الحديث : سئل صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال : الماء والملح والنار . وفي بعض الطرق : الإبرة والخمير . وقال علي وابن عمر وابن عباس أيضا : الماعون : الزكاة ، ومنه قول الراعي :


أخليفة الرحمن إنا معشر     حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا     حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا     ماعونهم ويضيعوا التهليلا



يعني بالماعون الزكاة ، وهذا القول يناسبهما ، ذكره قطرب من أن أصله من المعن ، وهو الشيء القليل ، فسميت الزكاة ماعونا ؛ لأنها قليل من كثير ، وكذلك الصدقة غيرها ، وقال ابن عباس : هو العارية ، وقال محمد بن كعب والكلبي : هو المعروف كله ، وقال عبد الله بن عمر : منع الحق ، وقيل : الماء والكلأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية