صفحة جزء
سورة اللهب مكية وهي خمس آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

( تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد )

الحطب معروف ، ويقال : فلان يحطب على فلان إذا وشى عليه . الجيد : العنق . المسد : الحبل من ليف ، وقال أبو الفتح : ليف المقل ، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد . انتهى . وقد يكون من جلود الإبل ومن أوبارها ، قال الراجز :


ومسد أمر من أيانق



ورجل ممسود الخلق : أي مجدوله شديده .

( تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ) .

[ ص: 525 ] هذه السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين الله تعالى ، أتبع بذكر من لم يدخل في الدين ، وخسر ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان ، وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر ، وهنا قال ابن عباس : خابت ، وقتادة : خسرت ، وابن جبير : هلكت ، وعطاء : ضلت ، ويمان بن رياب : صفرت من كل خير ، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى ، وقالوا فيما حكى : أشابة أم تابة أي هالكة من الهرم والتعجيز ، وإسناد الهلاك إلى اليدين ؛ لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، وهو في الحقيقة للنفس ، كقوله : ( ذلك بما قدمت يداك ) وقيل : أخذ بيديه حجرا ليرمي به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأسند التب إليهما ، والظاهر أن التب دعاء ، وتب : إخبار بحصول ذلك ، كما قال الشاعر :


جزاني جزاه الله شر جزائه     جزاء الكلاب العاويات وقد فعل



ويدل عليه قراءة عبد الله : وقد تب . روي أنه لما نزل : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال : ( يا صفية بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني لكما من الله شيئا ، سلاني من مالي ما شئتما ) . ثم صعد الصفا ، فنادى بطون قريش : ( يا بني فلان يا بني فلان ) . وروي أنه صاح بأعلى صوته : ( يا صباحاه ) . فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : ( أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ، ونزلت هذه السورة . وأبو لهب اسمه عبد العزى ، ابن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ ابن محيصن وابن كثير : ( أبي لهب ) بسكون الهاء ، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ( ذات لهب ) ، لأنها فاصلة ، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة ، قال الزمخشري : وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس مالك بالضم . انتهى . يعني : سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس ، ويعني في قول الشاعر :


وإني لمهد من ثنائي فقاصد به     لابن عمي الصدق شمس بن مالك



فأما في ( لهب ) ، فالمشهور في كنيته فتح الهاء ، وأما شمس بن مالك ، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام ، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع ، كما جاء أذناب خيل شمس ، قيل : وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه ، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية ، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم ، أو لأن مآله إلى النار ، فوافقت حالته كنيته ، كما يقال للشرير : أبو الشر ، وللخير أبو الخير ، أو لأن الاسم أشرف من الكنية ، فعدل إلى الأنقص ، ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، بأسمائهم ولم يكن أحدا منهم .

والظاهر أن ما في ( ما أغنى عنه ماله ) نفي ، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه ، ( وما كسب ) هو بنفسه ، أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها ، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به ، ويجوز أن تكون ما استفهاما في موضع نصب ، أي : أي شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار ؟ والمعنى : أين الغنى الذي لماله ولكسبه ؟ والظاهر أن ما في قوله : ( وما كسب ) موصولة ، وأجيز أن تكون مصدرية ، وإذا كانت ما في ( ما أغنى ) استفهاما ، فيجوز أن تكون ما في ( وما كسب ) استفهاما أيضا ، أي : وأي شيء كسب ؟ أي لم يكسب شيئا ، وعن ابن عباس : ( وما كسب ) ولده .

وفي الحديث : ( ولد الرجل من كسبه ) . وعن الضحاك : ( وما كسب ) هو عمله الخبيث في عداوة الرسول ، صلى الله عليه وسلم . وعن قتادة : وعمله الذي ظن أنه منه على شيء . وروي عنه أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا ، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي . وقرأ عبد الله : ( وما اكتسب ) بتاء الافتعال ، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم ، وعباس في اختياره ، وهو أيضا ( سيصلى ) بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ، ( ومريئته ) ، وعنه أيضا : ( ومريته ) على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير [ ص: 526 ] فيها ، وقرأ أيضا : ( حمالة للحطب ) ، بالتنوين في ( حمالة ) ، وبلام الجر في الحطب ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق : ( سيصلى ) بضم الياء وسكون الصاد ، وأبو قلابة : ( حاملة الحطب ) على وزن فاعلة مضافا ، واختلس حركة الهاء في ( وامرأته ) أبو عمرو في رواية ، والحسن ، وزيد بن علي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وابن محيصن ، وعاصم : ( حمالة ) بالنصب .

وقرأ الجمهور : ( سيصلى ) بفتح الياء وسكون الصاد ( وامرأته ) على التكبير ( حمالة ) على وزن فعالة للمبالغة مضافا إلى الحطب مرفوعا ، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة ، وارتفع ( وامرأته ) عطفا على الضمير المستكن في ( سيصلى ) وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته ( وحمالة ) في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة ل ( امرأته ) ، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة ، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل ، وفي قراءة النصب ، انتصب على الذم ، وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون ( وامرأته ) مبتدأ ، و ( حمالة ) واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء . والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه لتعقرهم ، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب ، قاله ابن عباس ، فحمالة معرفة ، فإن كان صار لقبا لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان ، وأن يكون بدلا ، قيل : وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة ، ويقال للمشاء بها : يحمل الحطب بين الناس ، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر ، قال الشاعر :


من البيض لم يصطد على ظهر لأمة     ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

جعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر . وقال الراجز :


إن بني الأرزم حمالو الحطب     هم الوشاة في الرضا وفي الغضب



وقال ابن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : يحطب على ظهره ، قال تعالى : ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ) وقيل : الحطب جمع حاطب ، كحارس وحرس ، أي بحمل الجناة على الجنايات ، والظاهر أن الحبل من مسد ، وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان : استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم ، وقال قتادة : قلادة من ودع ، وقال ابن المسيب : قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد . قال ابن عطية : وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث . انتهى . وقال الحسن : إنما كانت خرزا ، وقال الزمخشري : والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطابون تحسيسا لحالها وتحقيرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة ، ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :


ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي     أم ما تعير من حمالة الحطب
غرساء شاذخة في المجد سامية     كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب



ويحتمل أن يكون المعنى : إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع ، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه . انتهى . ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المسجد وبيدها فهر ، فقالت : [ ص: 527 ] بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلن وأفعلن ، وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، قال لها : هل تري معي أحدا ؟ فقالت : أتهزأ بي ؟ لا أرى غيرك ، وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول :


مذمما أبينا ودينه     قلينا وأمره عصينا



فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها . وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال .

التالي السابق


الخدمات العلمية