صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بين لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل . فلما بين ما حرم ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر . وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عما يلبس المحرم فقال : " لا يلبس القميص ولا السراويل " ، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ . و " الذين آمنوا " : جمع من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويجوز أن يراد أهل المدينة ، فاللفظ عام والمراد خاص . وقيل : هذا الخطاب مؤكدا لقوله : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض ) . ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر ميز الله المؤمنين بهذا النداء ، تشريفا لهم وتنبيها على خصوصيتهم . وظاهر " كلوا " : الأمر بالأكل المعهود . وقيل : المراد الانتفاع به ، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع ، إذ كان الأكل أعظمها ، إذ به تقوم البنيينة . قيل : وهذا أقرب إلى المعنى ; لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات ، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك . والطيبات . قيل : الحلال ، وقيل : المستلذ المستطاب ، لكن بشرط أن [ ص: 485 ] يكون حلالا . وقد تقدم هذا الشرط في قوله : ( كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) ، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال . " ما رزقناكم " : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ، لما في الرزق من الامتنان والإحسان . وإذا فسر الطيبات بالحلال ، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى حرام ، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أن الرزق لا يكون إلا حلالا . وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة ، فأغنى عن إعادته هنا . ومن منع أن يكون الرزق حراما قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم ، وهو الحلال ، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعا لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه ، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى .

( واشكروا لله ) : هذا من الالتفات ، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب ، وحكمة ذلك ظاهرة ; لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الإنعام والزرق والشكر ، ليس على هذا الإذن الخاص ، بل يشكر على سائر الإنعامات والإامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص . وجاء هنا تعدية الشكر باللام ، وقد تقدم الكلام على ذلك .

( وتضمنت ) هذه الآية أمرين : الأول : ( كلوا ) ، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب ، ومع الضيف مندوب إليه ، وإذا خلا عن العوارض كان مباحا ، وكذا هو في الآية . والثاني : ( واشكروا لله ) ، وهو أمر وليس بإباحة . قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر ; لأنه إما أن يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بالجوارح . فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان ، أو الجوارح . أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك . فإذا كان ذلك العلم ضروريا ، فكيف يمكن إيجابه ؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح ، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح . فإذا بينا أنهما لا يجبان ، كان العزم بأن لا يجب أولى . وأما الشكر باللسان ، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعما ، أو بالثناء عليه . فهذا غير واجب بالاتفاق ، بل هو من باب المندوبات . وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضا غير واجب . وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقا للتعظيم ، وإظهار ذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك . وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه ، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله : ( واشكروا لي ولا تكفرون ) .

( إن كنتم إياه تعبدون ) : من ذهب إلى أن معناها معنى إذ ، فقوله ضعيف ، وهو قول كوفي ، ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس ، وكأن المعنى : العبادة له واجبة ، فالشكر له واجب ، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية : إن كنت عبدي فأطعني ، لا تريد بذلك التعليق المحض ، بل تبرزه في صورة التعليق ليكون أدعى للطاعة وأهز لها . وقيل : عبر بالعبادة عن العرفان ، كما قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . قيل : معناه ليعرفون ، فيكون المعنى : اشكروا الله إن كنتم عارفين به وبنعمه ، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر . وقيل : عبر بالعبادة عن إرادة العبادة ، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته ; لأن الشكر رأس العبادات . وقال الزمخشري : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى : " إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري " . انتهى كلامه . وإيا هنا مفعول مقدم ، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية ، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه ; لأنه عائد على الله تعالى ، كما في قولك : ( وإياك نستعين ) ، وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير ، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر ، لم [ ص: 486 ] ينفصل إلا في ضرورة ، قال :


إليك حتى بلغت إيا كا



التالي السابق


الخدمات العلمية