صفحة جزء
( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) الآية . مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص والدية ، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت ، فيموت على غير وصية ، ولا ضرورة تدعو إلى أن - كتب - أصله : العطف على ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ، و ( كتب عليكم ) ، وأن الواو حذفت للطول ، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها : لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت ، ومعنى حضور الموت أي : حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة ، والعرب تطلق على أسباب الموت موتا على سبيل التجوز . وقال تعالى : ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) ، وقال عنترة :


وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان



( وقال جرير ) :


أنا الموت الذي حدثت عنه     فليس لهارب مني نجاء



( وقال غيره ) :


وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا     قولا يبرئكم إني أنا الموت



والخطاب في - عليكم - للمؤمنين مقيدا بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت ، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين ، لكان إذا حضركم الموت ، لكنه روعيت دلالة العموم في - عليكم - من حيث المعنى ، إذ المعنى : كتب على كل واحد منكم ، ثم أظهر ذلك المضمر ، إذ كان يكون إذا حضره [ ص: 17 ] الموت ، فقيل : إذا حضر أحدكم ، ونظير مراعاة المعنى في العموم ، قول الشاعر :


ولست بسائل جارات بيتي     أغياب رجالك أم شهود ؟



فأفرد الضمير في رجالك : لأنه راعى معنى العموم ، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي ، فجاء قوله : أغياب رجالك ، على مراعاة هذا المعنى ، وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية . وقيل : المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته ، فيكون الخطاب متوجها إلى الأوصياء والورثة ، ويكون على حذف مضاف ، أي : كتب عليكم إذا مات أحدكم إنفاذ الوصية والعمل بها ، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية ، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر .

( إن ترك خيرا ) يعني : مالا في قول الجميع ، وقال مجاهد : الخير في القرآن كله المال ( وإنه لحب الخير لشديد ) ، ( إني أحببت حب الخير ) ، ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، ( إني أراكم بخير ) ، وظاهر الآية يدل على مطلق الخير ، وبه قال : الزهري ، وأبو مجلز ، وغيرهما ، قالوا : تجب فيما قل وفيما كثر . وقال أبان : مائتا درهم فضة . وقال النخعي : من ألف درهم إلى خمسمائة : وقال علي وقتادة : ألف درهم فصاعدا ، وقال الجصاص : أربعة آلاف درهم . هذا قول من قدر الخير بالمال . وأما من قدره بمطلق الكثرة ، فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف حال الرجل ، وكثرة عياله ، وقلتهم . وروي عن عائشة أنها قالت : ما أرى فضلا في مال هو أربعمائة دينار لرجل أراد أن يوصي وله عيال ، وقالت في آخر : له عيال أربعة وله ثلاثة آلاف ، إنما قال الله : ( إن ترك خيرا ) وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك .

وعن علي : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه ، وقال : قال تعالى : ( إن ترك خيرا ) ، والخير : هو المال ، وليس لك مال . انتهى .

ولا يدل عدم تقدير المال على أن الوصية لم تجب ، إذ الظاهر التعليق بوجود مطلق الخير ، وإن كان المراد غير الظاهر ، فيمكن تعليق الإيجاب بحسب الاجتهاد في الخير : وفي تسميته هنا وجعله خيرا إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث ، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه ، ويأثم بالوصية فيه . واختلفوا ، فقال قوم : الآية محكمة ، والوصية للوالدين والأقربين واجبة ، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين ، وقال قوم : إنها محكمة في التطوع ، وقال قوم : إنها محكمة وليس معنى الوصية مخالفا للميراث ، بل المعنى : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين في قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) . وقال الزمخشري : أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ولا ينقص من أنصابهم ، انتهى كلامه .

وقيل : هي محكمة ، ويخصص الوالدان والأقربون بأن لا يكونوا وارثين بل أرقاء أو كفارا ، كما خصص في الموصى به بالثلث فما دونه ، قاله الحسن ، وطاوس ، والضحاك ، وقال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين والأقرباء الذين لا يرثون جائزة ، وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة ، ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض . وقال ابن عمر ، وابن عباس أيضا ، وابن زيد : الآية كلها منسوخة . وبقيت الوصية ندبا ، ونحو هذا هو قول الشعبي ، والنخعي ، ومالك .

وقال الربيع بن خيثم وغيره لا وصية ، وقيل : كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ، وبقوله - عليه السلام : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " . ولتلقي الأمة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر ، وإن كان من الآحاد : لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا المثبت الذي صحت روايته . وقال قوم : الوصية للقرابة أولا ، فإن كانت لأجنبي فمعهم ، ولا يجوز لغيرهم مع تركهم . وقال الناس حين مات أبو العالية : عجبا له ! أعتقته امرأة من رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم . وقال الشعبي : لم يكن ذلك له ولا كرامة ، وقال طاوس : إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله ، وقاله جابر ، وابن زيد . وروي مثله عن الحسن ، وبه قال [ ص: 18 ] إسحاق ابن راهويه . وقال الحسن ، وجابر بن زيد أيضا ، وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جعلها الميت . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد : إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته جاز ذلك وأمضي ، كان الموصى له غنيا أو فقيرا ، مسلما أو كافرا . وهو مروي عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنها .

وظاهر كتب وجوب الوصية على من خلف مالا ، وهو قول الثوري . وقال أبو ثور : لا تجب إلا على من عليه دين أو عنده مال لقوم ، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه ، وقيل : لا تجب الوصية ، واستدل بقول النخعي : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يوص ، وبقوله في الحديث " يريد أن يوصي " ، فعلق بإرادة الوصية ، ولو كانت واجبة لما علقها بإرادته ، والموصى له إن كان وارثا ، وأجاز ذلك الورثة جاز ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك . أو قاتلا عمدا وأجاز ذلك الورثة ، جاز في قول أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف : لا تجوز .

ولو أوصى لبعض ورثته بمال ، فقال : إن أجاز ذلك الورثة وإلا فهو في سبيل الله ، فإن أجاز ذلك الورثة ، وإلا كان ميراثا . هذا قول مالك . وقال أبو حنيفة ، ومعمر : يمضى في سبيل الله . ولو أوصى لأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجازه الورثة قبل الموت فليس لهم الرجوع فيه بعد الموت ، وهي جائزة عليهم ، قاله ابن أبي ليلى ، وعثمان البتي .

وقال أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر ، والحسن بن صالح ، وعبيد الله بن الحسن : إن أجازوا ذلك في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت . وروي ذلك عن عبد الله ، وشريح ، وإبراهيم . وقال ابن القاسم عن مالك : إن استأذنهم فأذنوا فكل وارث بائن فليس له أن يرجع ، ومن كان في عياله ، أو كان من عم وابن عم ، أن يقطع نفقته عنهم إن صح ، فلهم أن يرجعوا . وقال ابن وهب عن مالك : إن أذنوا له في الصحة فلهم أن يرجعوا ، أو في المرض فلا .

وقول الليث كقول مالك ، ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه .

وروي عن طاوس وعطاء ، إن أجازوه في الحياة جاز عليهم ، ولا خلاف في صحة وصية العاقل البالغ غير المحجور عليه : واختلف في الصبي ، فقال أبو حنيفة : لا تجوز وصيته . قال المزني : وهو قياس قول الشافعي ، وقال مالك وغيره : يجوز ، والقولان عن أصحاب الشافعي . وظاهر قوله تعالى : ( كتب ) المنع : لأنه ليس من أهل التكليف ، وأجمعوا على أنه للإنسان أن يغير وصيته وأن يرجع فيها . واختلفوا في المدبر ، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له أن يغير ما دبر . قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : هو وصيته ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وابن شبرمة ، والثوري ، وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع مدبرا ، وأن عائشة باعت مدبرة .

وإذا قال لعبده : أنت حر بعد موتي ، فله الرجوع عند مالك في ذلك . وإن قال : فلان مدبر بعد موتي لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك . وأما الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، فكل هذا عندهم وصيته .

واختلفوا في الرجوع في التدبير بماذا يكون ؟ فقال أبو ثور : إذا قال رجعت في مدبري بطل التدبير ، وقال الشافعي : لا يكون إلا ببيع أو هبة ، وليس قوله رجعت رجوعا . ومن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية ، وقال أشهب : هو مدبر . وكيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها : هذا ما أوصى فلان بن فلان ، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ( وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) ، وأوصى من ترك من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته ، وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، ويوصيهم بما أوصى به ( إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . رواه الدارقطني ، عن أنس بن مالك .

وبني " كتب " للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وللاختصار ، إذ معلوم أنه الله تعالى ، ومرفوع " كتب " [ ص: 19 ] الظاهر أنه الوصية ، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل ، لا سيما هنا ، إذ طال بالمجرور والشرطين ، ولكونه مؤنثا غير حقيقي ، وبمعنى الإيصاء . وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه ، ولا يجوز أن يكون من معنى " كتب " لمضي " كتب " واستقبال الشرطين . ولكن يكون المعنى : كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيرا فليوص . ودل على هذا الجواب سياق الكلام والمعنى ، ويكون الجواب محذوفا ، جاء فعل الشرط بصيغة الماضي ، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جوابا ، فيكون ذلك المقدر جوابا للشرط الأول ، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفا يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف ، فيكون المحذوف دل على محذوف ، والشرط الثاني شرط في الأول ، فلذلك يقتضي أن يكون متقدما في الوجود ، وإن كان متأخرا لفظا . واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جوابا للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية ، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، فيؤخذ منه .

وقيل : جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى : كتب عليكم الوصية ، ويتجوز بلفظ " كتب " عن لفظ : يتوجه إيجاب الوصية عليكم ، حتى يكون مستقبلا فيفسر الجواب : لأنه مستقبل .

وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفا محضا لا شرطا ، فيكون إذ ذاك العامل فيها - كتب - على هذا التقدير ، ويكون جواب : ( إن ترك خيرا ) محذوفا يدل عليه - كتب - على هذا التقدير ، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولا للوصية : لأنها مصدر وموصول ، ولا يتقدم معمول الموصول عليه ، وأجاز ذلك أبو الحسن : لأنه يجوز عنده أن يتقدم المعمول إذا كان ظرفا على العامل فيه إذا لم يكن موصولا محضا ، وهو عنده المصدر ، والألف واللام في نحو : الضارب والمضروب ، وهذا الشرط موجود هنا ، وإلى هذا ذهب في قوله . أبعلي هذا بالرحى المتقاعس . فعلق - بالرحى - بلفظ المتقاعس .

وقال أبو محمد بن عطية : ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون - كتب - هو العامل في - إذا - والمعنى : توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجيه الإيجاب بـ ( كتب ) ، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، والوصية مفعول لم يسم فاعله بـ ( كتب ) ، وجواب الشرطين - " إذا " ، و " إن " - مقدر يدل عليه ما تقدم من قوله : ( كتب عليكم ) ، كما تقول : شكرت فعلك أن جئتني إذا كان كذا ، انتهى كلامه . وفيه تناقض لأنه قال : العامل في إذا - كتب - وإذا كان العامل فيها " كتب " تمحضت للظرفية ولم تكن شرطا ، ثم قال : وجواب الشرطين - " إذا " و " إن " - مقدر يدل عليه ما تقدم إلى آخر كلامه ، وإذا كانت " إذا " شرطا فالعامل فيها إما الجواب ، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها ، إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا . ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب ، لأنه قال : وجواب الشرطين - إذا وإن - مقدر يدل عليه ما تقدم ، وما كان مقدرا يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم ، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بـ ( كتب ) . والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا ، وهذا اصطلاحه ، قال في تفسيره : والوصية فاعل " كتب " ، وذكر فعلها للفاصل : ولأنها بمعنى : أن يوصي ، ولذلك ذكر الراجع في قوله - فمن بدله بعد ما سمعه - اهـ .

ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا سهو من الناسخ ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء ، على تقدير الفاء ، والخبر إما محذوف ، أي : فعليه الوصية ، وإما منطوق به ، وهو قوله : ( للوالدين والأقربين ) أي : فالوصية للوالدين والأقربين ، وتكون هذه الجملة الابتدائية جوابا لما تقدم ، والمفعول الذي لم يسم فاعله - بكتب - مضمر . أي : الإيصاء يفسره ما بعده . قال [ ص: 20 ] أبو محمد بن عطية في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد ، هو العامل في إذا ، وترتفع الوصية بالابتداء ، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه - رحمه الله :


من يفعل الحسنات الله يحفظه



ويكون رفعها بالابتداء بتقدير فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال : فالوصية للوالدين . اهـ كلامه .

وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر ، ثم قال : إن الوصية فيه جواب الشرطين ، وقد تقدم إبداء تناقض ذلك : لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطا ، ومن حيث أن الوصية فيه جواب " إذا " يكون شرطا فتناقضا : لأن الشيء الواحد لا يكون شرطا وغير شرط في حالة واحدة ، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملا في " إذا " أيضا : لأنك إما أن تقدر هذا العامل في - إذا - لفظ الإيصاء بحذف ، أو ضمير الإيصاء ، لا جائز أن يقدر لفظ الإيصاء حذف لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، وابن عطية قدر لفظ الإيصاء ، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء : لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل : لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهرا ، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر أحرى أن لا يعمل ، وأما قوله : وفيه جواب الشرطين ، فليس بصحيح ، فإنا قد قررنا أن كل شرط يتقضى جوابا على حذفه ، والشيء الواحد لا يكون جوابا لشرطين ، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه :


من يفعل الحسنات الله يحفظه



وهو تحريف على سيبويه ، وإنما سيبويه أيده في كتابه :


من يفعل الحسنات الله يشكرها     والشر بالشر عند الله مثلان



وأما قوله : بتقدير فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قال : فالوصية للوالدين ، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه ، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلا في ضرورة الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه .

قال سيبويه : وسألته ، يعني الخليل ، عن قوله : إن تأتني أنا كريم ، قال : لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر من قبل أن أنا كريم ، يكون كلاما مبتدأ ، والفاء وإذا لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما ، فكرهوا أن يكون هذا جوابا حيث لم يشبه الفاء ، وقد قاله الشاعر مضطرا ، وأنشد البيت السابق .


من يفعل الحسنات



وذكر عن الأخفش : أن ذلك على إضمار الفاء ، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلا في اضطرار ، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجار والمجرور الذي هو - عليكم - وهو قول لا بأس به على ما نقرره ، فنقول : لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيرا تشوف السامع لذكر المكتوب ما هو ، فتكون الوصية مبتدأ ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير ، ويكون جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيرا ؟ فقيل : الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة ، أو المكتوب الوصية للوالدين والأقربين ، ونظيره : ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد ، فيكون هذا جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قال : من المضروب ؟ وهذا الوجه أحسن وأقل تكلفا من الوجه الذي قبله ، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء ، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية