صفحة جزء
( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) قرأ الجمهور : " يطيقونه " مضارع أطاق ، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق ، كقولهم أطول في أطال ، وهو الأصل . وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء ، والمسموع منه : أجود ، وأعول ، وأطول ، وأغيمت السماء ، وأخيلت ، وأغيلت المرأة ، وأطيب ، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس ، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين ، إلا أبا زيد الأنصاري فإنه يرى التصحيح في ذلك مقيسا اعتبارا بهذه الألفاظ النزرة المسموع فيها الإعلال والنقل على القياس . وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه : يطوقونه ، مبنيا للمفعول من طوق على وزن قطع . وقرأت عائشة ، ومجاهد ، وطاوس ، وعمرو بن دينار : يطوقونه من اطوق ، وأصله تطوق على وزن تفعل ، ثم أدغموا التاء في الطاء ، فاجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل . قال بعض الناس : هو تفسير لا قراءة ، خلافا لمن أثبتها قراءة ، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل ، وأوردها قراءة .

وقرأت فرقة ، منهم عكرمة : يطيقونه ، وهي مروية عن مجاهد ، وابن عباس ، وقرئ أيضا هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول ، ورد بعضهم هذه القراءة ، وقال : هي باطلة : لأنه مأخوذ من الطوق . قالوا : ولازمة فيه ، ولا مدخل للياء في هذا المثال . وقال ابن عطية : تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف ، انتهى . وإنما ضعف هذا أو امتنع عند هؤلاء : لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل ، فأشكل ذلك عليهم ، وليس كما ذهبوا إليه ، بل هو على وزن : تفعيل من الطوق ، كقولهم : تدير المكان وما بها ديار ، فأصله : تطيوقون ، اجتمعت ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء ، فقيل : تطيق يتطيق ، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح . ( فهذه ست قراءات ) يرجع [ ص: 36 ] معناها إلى الاستطاعة والقدرة ، فالمبني منها للفاعل ظاهر ، والمبني منها للمفعول ، معناه : يجعل مطيقا لذلك ، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف ، أي : يتكلفونه أو يكلفونه ، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة ، فكأنه قيل : مقلدون ذلك ، أي : يجعل في أعناقهم ، ويكون كناية عن التكليف ، أي : يشق عليهم الصوم . وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه ) ، والضمير عائد على الصوم ، فاختلفوا ، فقال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، والحسن البصري ، والشعبي ، وعكرمة ، وابن شهاب ، والضحاك : كان الصيام على المقيمين القادرين مخيرا فيه ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم ، ثم نسخ ذلك ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، وهذا قول أكثر المفسرين ، وقيل : ثم محذوف معطوف تقديره : يطيقونه ، أو " الصوم " ، لكونهم كانوا شبابا ثم عجزوا عنه بالشيخوخة ، قاله سعيد بن المسيب والسدي .

وقيل : المعنى وعلى الذين يطيقون الصوم ، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم ، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ، ثم نسخ ذلك بقوله : ( فليصمه ) ، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم ، قاله ابن عباس . وجوز بعضهم أن تكون " لا " محذوفة ، فيكون الفعل منفيا ، وقدره : وعلى الذين لا يطيقونه . قال : حذف لا وهي مرادة . قال ابن أحمد :


آليت أمدح مقرفا أبدا يبقى المديح ويذهب الرفد



( وقال الآخر ) :


فخالف ، فلا والله تهبط تلعة     من الأرض إلا أنت للذل عارف



( وقال امرؤ القيس ) :


فقلت يمين الله أبرح قاعدا     ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي



وتقدير - لا - خطأ : لأنه مكان إلباس . ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم ، هو أن الفعل مثبت ، ولا يجوز حذف - لا - وإرادتها إلا في القسم ، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم ، وعلة ذلك مذكورة في النحو . وقيل : ( الذين يطيقونه ) المراد : الشيخ الهرم والعجوز ، أي : يطيقونه بتكلف شديد ، فأباح الله لهم الفطر والفدية ، والآية على هذا محكمة ، ويؤيده توجيه من وجه يطوقونه على معنى يتكلفون صومه ويتجشمونه ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة . وزيد عن علي : والمريض الذي لا يرجى برؤه ، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم ، فتركه ، فعليه الفدية .

وقال الأصم : يرجع ذلك إلى المريض والمسافر : لأن لهما حالين : حال لا يطيقان فيه الصوم ، وقد بين الله حكمها في قوله : ( فعدة من أيام أخر ) ، وحال يطيقان ، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما ، فخير بين أن يفطر ويفدي ، فكأنه قيل : وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه . والظاهر من هذه الأقوال القول الأول ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين : متصف بمظنة المشقة ، وهو المريض والمسافر ، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ، ومطيق للصوم ، فإن صام قضى ما عليه ، وإن أفطر فدى ، ثم نسخ هذا الثاني ، وتقدم أن هذا كان ، ثم نسخ .

والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز ، تكون الآية محكمة على قولهم ، واختلفوا ، فقيل : يختص هذا الحكم بهؤلاء ، وقيل : يتناول الحامل والمرضع ، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية ، هكذا نقل بعضهم ، وليس هذا الإجماع بصحيح : لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال : لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، ويستحب لمن قوي عليها . وتقدم قول مالك ورأيه في الآية . وقال الشافعي : على الحامل والمرضع ، [ ص: 37 ] إذا خافتا على ولديهما الفدية ، لتناول الآية لهما ، وقياسا على الشيخ الهرم ، والقضاء . وروي في البويطي : لا إطعام عليهما ، وقال أبو حنيفة : لا تجب الفدية ، وأبطل القياس على الشيخ الهرم : لأنه لا يجب عليه القضاء ، ويجب عليهما . قال : فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعا بين البدلين ، وهو غير جائز ، وبه قال ابن عمر ، والحسن ، وأبو يوسف ومحمد وزفر ، وقال علي : الفدية بلا قضاء ، وذهب ابن عمر ، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها ، وذهب الحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي ، ولا فدية عليها ، وذهب مجاهد ، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي . وتقدم أن هذا مذهب الشافعي ، وأما المرضع فتقدم قول الشافعي ، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت . وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي . وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع .

واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام ، فقال إبراهيم ، والقاسم بن محمد ، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني . يطعم عن كل يوم مدا : وقال الثوري : نصف صاع من بر ، وصاع من تمر أو زبيب ، وقال قوم : عشاء وسحور ، وقال قوم : قوت يوم ، وقال أبو حنيفة وجماعة ، يطعم عن كل يوم نصف صاع من بر ، وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقيس بن الكاتب الذي كان شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية ، وعائشة ، وسعيد بن المسيب في الشيخ الكبير : أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع . وظاهر الآية : أنه يجب مطلق طعام ، ويحتاج التقييد إلى دليل .

ولو جن في رمضان جميعه أو في شيء منه ، فقال الشافعي : لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل ، وقال مالك وعبيد الله العنبري : يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة : وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : إذا جن في رمضان كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله . وقرأ الجمهور : " فدية طعام مسكين " ، بتنوين الفدية ، ورفع " طعام " ، وإفراد " مسكين " ، وهشام كذلك إلا أنه قرأ : " مساكين " بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية لأنها مصدر . ومن نون كان " طعام " بدلا من " فدية " ، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي . ومن لم ينون فأضاف كان في ذلك تبيين أيضا وتخصص بالإضافة ، وهي إضافة الشيء إلى جنسه : لأن الفدية اسم للقدر الواجب ، والطعام يعم الفدية وغيرها ، وفي ( المنتخب ) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة . قال : لأن الفدية لها ذات ، وصفتها أنها طعام ، وهذا ليس بجيد : لأن طعاما ليس بصفة ، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء ، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب ، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف . أما إذا كان مصدرا فإنه لا يوصف به إلا عند إرادة المبالغة ، ولا معنى لها هنا ، وأما إذا أريد به المفعول : فلأنه ليس جاريا على فعل ولا منقاسا ، فلا تقول : في مضروب ضراب ، ولا في مقتول قتال ، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن ، لا يوصف بشيء منها ، ولا يعمل عمل المفعول ، ألا ترى أنه لا يجوز فيها مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه ، فيرفع ما بعدها بها ؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته ، ومن قرأ مساكين ، قابل الجمع بالجمع ، ومن أفرد فعلى مراعاة إفراد العموم ، أي : وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين ، ونظيره ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أي : فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة . وتبين من إفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع .

التالي السابق


الخدمات العلمية