صفحة جزء
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) سبب النزول فيما قال الحسن : أن قوما ، قيل : اليهود ، وقيل : المؤمنون ، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ وقال عطاء : لما نزل : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) قال قوم : في أي ساعة ندعو ؟ فنزل ( وإذا سألك ) . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) طلب تكبيره وشكره ، بين أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغباته ، تنبيها على أن يكون ولا بد مسبوقا بالثناء الجميل . والكاف في : سألك خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله الذي أنزل فيه القرآن أي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنه قيل : " أنزل عليك فيه القرآن ، فجاء هذا الخطاب مناسبا لهذا المحذوف " . و " عبادي " ، ظاهره العموم ، وقيل : أريد به الخصوص : إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب ، وأما عبادي ، و " عني " ، فالضمير فيه لله تعالى ، وهو من باب الالتفات : لأنه سبق ولتكبروا الله ، فهو خروج من غائب إلى متكلم ، و " عني " متعلق بسألك ، وليس المقصود هنا عن ذاته : لأن الجواب وقع بقوله : " فإني قريب " ، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قربا بالمكان ، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعا لدعائه ، مسرعا في إنجاح طلبة من سأله ، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه ، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه ، ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ، وما روي من قوله عليه السلام : " هو بينكم وبين أعناق رواحلكم " . والفاء في قوله " فإني قريب " جواب " إذا " ، وثم قول محذوف تقديره : فقل لهم إني قريب : لأنه لا يترتب على الشرط القرب ، إنما يترتب الإخبار عن القرب .

( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) أجيب : إما صفة لـ " قريب " ، أو خبر بعد خبر ، وروعي الضمير في " فإني " فلذلك جاء أجيب ، ولم يراع الخبر فيجيء " يجيب " على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب : أشهرهما مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا ، وكقولهم : ( بل أنتم قوم تفتنون ) ، ( بل أنتم قوم تجهلون ) . وكقول الشاعر :


وإنا لقوم ما نرى القتل سبة



والطريق الثاني : مراعاة الخبر كقولك : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ يريد الخير ، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية ، وقد تكلمنا عليها في كتابنا المسمى بـ ( منهج السالك ) . والعامل في إذا قوله " أجيب " وروي أنه نزل قوله : ( أجيب دعوة الداع [ ص: 46 ] إذا دعان ) لما نزل : ( فإني قريب ) ، وقال المشركون : كيف يكون قريبا من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ ، سمك كل سماء خمسمائة عام ، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك ، فبين بقوله : ( أجيب ) أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة ، وظاهر قوله : ( أجيب دعوة الداع ) عموم الدعوات ، إذ لا يريد دعوة واحدة ، والهاء في " دعوة " هنا ليست للمرة ، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو " رحمة " والظاهر عموم الداعي : لأنه لا يدل على داع مخصوص : لأن الألف واللام فيه ليست للعهد ، وإنما هي للعموم . والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء ، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله .

وذكروا قيودا في هذا الكلام وتخصيصات ، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى . التقدير : إن شئت ، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى ، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، وقيل : بوفق القضاء أي : أجيب إن وافق قضائي ، وهو راجع لمعنى المشيئة ، وقيل : يكون المسئول خيرا للسائل ، أي : إن كان خيرا . وقيل : يكون المسئول غير محال ، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل ، ولا يبلغه المقصود مما طلب ، فخصصوا الداعي بأن يكون مطيعا مجتنبا لمعاصيه . وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له " ؟

قالوا : ومن شرطه أن لا يمل ، ففي الصحيح : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي . وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم ، ولا قطيعة رحم ، ولا معصية ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها " . وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور ، وأن لا يقصد فيه السجع ، سجع الجاهلية ، وأن يكون غير ملحون .

وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر ، وفي الثلث الأخير من الليل ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار ، وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصف في سبيل الله ، والعيدين ، والساعة التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة : وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة ، كذا ورد مفسرا في الحديث ، وقيل : بعد عصر الجمعة ، وعندما تزول الشمس . ومن الأماكن : في الكعبة ، وتحت ميزابها ، وفي الحرم ، وفي حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم ، والجامع الأقصى . وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه ، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله ، ولا يقطع رجاءه من فضله ، فإن الله تعالى قال : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) ، وقال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلم من نفسه ، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس : ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ) .

وقالت المعتزلة : الإجابة مختصة بالمؤمنين ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) : لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ، والفاسق لا يستحق التعظيم ، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة . قيل : والدعاء أعظم مقامات العبودية : لأنه إظهار الافتقار إلى الله تعالى ، والشرع قد ورد بالأمر به ، وقد دعت الأنبياء والرسل ، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية ، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه ، وذكر شبها له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة ، وقالوا : الأولى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى ، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء والحث عليه ، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس ، إنهم علماء الحقيقة : يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور [ ص: 47 ] الآخرة ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل ، فلا حاجة إليها . وقال قوم منهم : إن كان في حالة الدعاء أصلح ، وقلبه أطيب ، وسره أصفى ، ونفسه أزكى ، فليدع : وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به . وقال قوم منهم : ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة بالله ، وعدم الاعتراض : ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار . وقال قوم منهم : ترك الذنوب هو الدعاء : لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه ، قال تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) . وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه :

أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله : لأنك دعوته ووحدته ، والإجابة عبارة عن القبول ، لما سمي التوحيد دعاء سمي القبول إجابة ، لتجانس اللفظ .

الوجه الثاني : أن الإجابة هو السماع فكأنه قال : أسمع .

الوجه الثالث : أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب : لأن التائب يدعو الله عند التوبة ، والإجابة قبول التوبة . الوجه الرابع : أن يكون الدعاء هو العبادة ، وفي الحديث : " الدعاء العبادة " قال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) ، ثم قال : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي ) ، والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب .

الوجه الخامس : الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسئول وبمنعه ، فالمعنى : إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد . وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر .

( فليستجيبوا لي ) أي : فيطلبوا ، أي : فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني ، قاله ثعلب ، فيكون استفعل ، قد جاءت بمعنى الطلب ، كاستغفر ، وهو الكثير فيها ، أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، قاله مجاهد ، وأبو عبيدة ، وغيرهما . ويكون استفعل فيه بمعنى افعل ، وهو كثير في القرآن : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع ) ، ( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ) : إلا أن تعديته في القرآن باللام ، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه ، قال :


وداع دعا يا من يجيب إلى الندا     فلم يستجبه عند ذاك مجيب



أي : فلم يجبه ، ومثل ذلك ، أعني كون " استفعل " موافق " أفعل " ، قولهم : استبل بمعنى أبل ، واستحصد الزرع وأحصد ، واستعجل الشيء وأعجل ، واستثاره وأثاره ، ويكون " استفعل " موافقة " أفعل " متعديا ولازما ، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله : ( وإياك نستعين ) .

وقال أبو رجاء الخراساني : معناه فليدعوا لي ، وقال الأخفش : فليذعنوا للإجابة ، وقال مجاهد أيضا ، والربيع : " فليطيعوا " ، وقيل : الاستجابة هنا التلبية ، وهو : لبيك اللهم لبيك ، واللام لام الأمر ، وهي ساكنة ، ولا نعلم أحدا قرأها بالكسر .

( وليؤمنوا بي ) معطوف على : فليستجيبوا لي ، ومعناه الأمر بالإيمان بالله ، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بعد : لأن صدر الآية يقتضي أنهم مؤمنون ، فلذلك يؤول على الديمومة ، أو على إخلاص الدين ، والدعوة والعمل ، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة ، أو بالإيمان وتوابعه ، أو بالإيمان ، في أني أجيب دعاءهم ، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني .

( لعلهم يرشدون ) قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين ، وقرأ قوم : " يرشدون " مبنيا للمفعول ، وروي عن أبي حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة : " يرشدون " بفتح الياء وكسر الشين ، وذلك باختلاف عنهما ، وقرئ أيضا " يرشدون " بفتحهما ، والمعنى : أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم ، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم ، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء : لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به ، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلا وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك ، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه ، وإنما ذلك مختص بك . ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ، ناسب ذكر الرشاد وهو الهداية ، كما قال تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) ، ( وهديناهما الصراط المستقيم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية