صفحة جزء
( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) . قال مقاتل : نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي ، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أرض ، وكان امرؤ القيس المطلوب ، وعدان الطالب ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت ، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام ، فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائما له ، ممنوعا من اللذة الكبرى بالليل والنهار ، جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب ، ويزيده بصيرة ، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة ، فلذلك نهي عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه ، وتخلل أيضا بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي ، وسؤال العباد الله تعالى ، وقد جاء في الحديث : أن من كان مطعمه حراما ، وملبسه حراما ، ومشربه حراما ، ثم سأل الله أنى يستجاب له . فناسب أيضا النهي عن أكل المال الحرام .

ويجوز أن تكون المناسبة : أنه لما أوجب عليهم الصوم ، كما أوجبه على من كان من قبلهم ، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم ، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا ، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل ، كما قال تعالى : ( ويشترون به ثمنا قليلا ) ، ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، ( أكالون للسحت ) ، وأن يكونوا مخالفيهم قولا وفعلا ، وصوما وفطرا ، وكسبا ، واعتقادا ، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور : " خالفوا اليهود " ، وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض ، إذ نزل ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) لاعتزال اليهود ، بأن لا يؤاكلوهن ، ولا يناموا معهن في بيت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " افعلوا كل شيء إلا النكاح " . فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه .

والمفهوم من قوله تعالى : " ولا تأكلوا " الأكل المعروف : لأنه الحقيقة . وذكره دون سائر وجوه الاعتداء والاستيلاء : لأنه أهم الحوائج ، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال . ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازا عبر به عن الأخذ والاستيلاء ، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين ، وإضافة الأموال إلى المخاطبين . والمعنى : ولا يأكل بعضكم مال بعض ، كقوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ، أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحته أن يكون منهيا ومنهيا عنه ، وآكلا ومأكولا منه ، فخلط الضمير لهذه الصلاحية ، وكما يحرم أن يؤكل يحرم أن يأكل غيره ، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة ، بل هي من باب الإضافة بالملابسة . وأجاز قوم الإضافة للمالكين ، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب ، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم ، لقوله : تريدونها بينكم [ ص: 56 ] بالباطل : وقال الزجاج بالظلم ، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغصب ، والنهب ، والقمار ، وحلوان الكاهن ، والخيانة ، والرشاء ، وما يأخذه المنجمون ، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع . وقال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه ، فيجحد المال ويخاصم صاحبه ، وهو يعلم أنه آثم : وقال عكرمة : هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها دراهم ، وقال ابن عباس أيضا : هو أخذ المال بشهادة الزور . قال ابن عطية : ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع : لأن الغبن كأنه وهبه ، انتهى . وهو صحيح .

والناصب للظرف " تأكلوا " والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان ، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص ، ثم بين المعاني . وفي قوله : " بينكم " يقع لما هم يتعاطونه من ذلك : لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض ، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين ، إذ لو كانت كذلك لما احتيج إلى هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك ، وقيل : انتصاب " بينكم " على الحال من " أموالكم " فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة بينكم ، وهو ضعيف ، والباء في " بالباطل " للسبب وهي تتعلق بـ " تأكلوا " وجوزوا أن تكون بالباطل ، حالا من الأموال ، وأن تكون حالا من الفاعل .

( وتدلوا بها إلى الحكام ) هو مجزوم بالعطف على النهي ، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وكذا هي في مصحف أبي ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية . والظاهر أن الضمير في " بها " عائد على الأموال ، فنهوا عن أمرين ، أحدهما : أخذ المال بالباطل ، والثاني : صرفه لأخذه بالباطل ، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوبا على جواب النهي بإضمار أن ، وجوزه الزمخشري ، وحكى ابن عطية أنه قيل : " تدلوا " في موضع نصب على الظرف ، قال : وهذا مذهب كوفي ، أن معنى الظرف هو الناصب ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه " أن " مضمرة ، انتهى . ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فنقول به ، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي ، وتجويز الزمخشري ذلك هنا ، فتلك مسألة " لا تأكل السمك وتشرب اللبن " ، بالنصب . قال النحويون : إذا نصبت كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين .

أحدهما : أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده ، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما : لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة ، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات ؟

والثاني : وهو أقوى ، أن قوله لتأكلوا علة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له : لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما ، بل إنما يترتب على وجود أحدهما ، وهو : الإدلاء بالأموال إلى الحكام . والإدلاء هنا قيل : معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام ، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم . إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكون المال أمانة ، كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدعى عليه ، والباء على هذا القول للسبب ، وقيل : معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها . قال ابن عطية : وهذا القول يترجح : لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم ، وهو الأقل ، وأيضا : فإن اللفظتين متناسبتان . تدلوا من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة ، انتهى كلامه . وهو حسن .

وقيل : المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم : أدلى فلان بحجته ، قام بها ، وهو راجع لمعنى القول الأول ، والضمير في " بها " عائد على الأموال ، كما قررناه ، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور ، أي : لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام ، فيحتمل على هذا القول أن يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود ، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور ، ويحتمل أن يكون [ ص: 57 ] الذين نهوا هم المشهود لهم ، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس ، بسبب شهادة أولئك الشهود .

( لتأكلوا فريقا ) أي : قطعة وطائفة ( من أموال الناس ) ، قيل : هي أموال الأيتام ، وقيل : هي الودائع . والأولى العموم ، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق ، و " من أموال الناس " في موضع الصفة ، أي : فريقا كائنا من أموال الناس . ( بالإثم ) متعلق بقوله : " لتأكلوا " وفسر بالحكم بشهادة الزور ، وقيل : بالرشوة ، وقيل : بالحلف الكاذب ، وقيل : بالصلح ، مع العلم بأن المقضي له ظالم ، والأحسن العموم ، فكل ما أخذ به المال ومآله إلى الإثم فهو إثم ، والأصل في الإثم التقصير في الأمر ، قال الشاعر :


جمالية تغتلي بالرداف إذا كذب الآثمات الهجيرا



أي : المقصرات ، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثما . والباء في " بالإثم " للسبب ، ويحتمل أن تكون للحال أي : متلبسين بالإثم ، وهو الذنب ، ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية ، أي : أنكم مبطلون آثمون ، وما أعد لكم من الجزاء على ذلك ، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها ، وخصوصا حقوق العباد . وفي الحديث : " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذ منه شيئا ، فإن ما أقضي له قطعة من نار " . وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم ، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه ، وهذا في الأموال باتفاق ، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر ، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور ، والمحكوم له يعلم بذلك . فقال أبو حنيفة : هو نافذ ، وهو كالإنشاء ، وإن كانوا شهود زور . وقال الجمهور : ينفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا .

وفي قوله : ( وأنتم تعلمون ) دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم ، وحكم له الحاكم بأخذ مال ، فإنه يجوز له أخذه ، كأن يلقى لأبيه دينا وأقام البينة على ذلك الدين ، فحكم له به الحاكم ، فيجوز له أخذه ، وإن كان لا يعلم صحة ذلك ، إذ من الجائز أن أباه وهبه ، أو أن المدين قضاه ، أو أنه مكره في الإقرار ، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه . والأصل عدم براءة المقر ، وعدم إكراهه ، فيجوز له أن يأخذه .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريبا لهم ، وتحريكا لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام ، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسيا في هذا التكليف الشاق بمن قبلنا ، فليس مخصوصا بنا ، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى ، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله أياما معدودات ، أو يحصرها العد من قلتها ، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره ، وأوجب عليه قضاء عدتها إذا صح وأقام ، ثم ذكر أن من أطاق الصوم وأراد الفطر فأفطر ، فإنه يفدي بإطعام مساكين ، ثم ذكر أن التطوع بالخير ، هو خير ، وأن الصوم أفضل من الفطر والفداء ، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان ، وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولا بالأخف فالأخف ، ينتهي إلى الحد الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة ، فيستقر الحكم . ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه ، وعذر من كان مريضا أو مسافرا ، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام ، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر ، هو لإرادته تعالى بالمكلفين للتيسير . ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر ، وإباحة الفطر للمريض والمسافر ، وإرادة اليسر بنا ، هو لتكميل العدة ، ولتعظيم الله ، ولرجاء الشكر ، فقابل كل مشروع بما يناسبه ، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم ، ذكر قربه بالمكانة منهم ، فإذا سألوه أجابهم ، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت [ ص: 58 ] دعائه ، ثم طلب منهم الاستجابة له إذا دعاهم ، كما هو يجيبهم إذا دعوه ، ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان : لأنه أصل العبادات وبصحته تصح ، ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به ، ثم امتن عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه ، وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها ، ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن ، ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم ، ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الإخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال : ( فالآن باشروهن ) ، وكذلك الأكل والشرب ، وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر ، ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل . ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم ، وكان من أحوال الصائم الاعتكاف ، وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراما نبه على ذلك بقوله : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) . ثم أشار إلى الحواجز وهي الحدود ، وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدها هو الله تعالى ، فنهاهم عن قربانها ، فضلا عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها ، ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها ، وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة : ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى ، ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل ، وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها ، ونهاكم أيضا عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئا من الأموال التي لا يستحقونها ، وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحا لهم ، وتوبيخا لهم : لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيئ ، كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها . وبما يترتب عليها .

ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام ، وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات ، حتى أنه جاء في الحديث : " فإن امرؤ سبه ، فليقل إني صائم " . وجاء عن الله تعالى : " الصوم لي وأنا أجزي به " . وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه . اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل ، ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه ، فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش . فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به ، واختتمت بمحرم منهي عنه ، وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضا أمر ونهي ، وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى تعالى عنه ، أعاننا الله عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية