صفحة جزء
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ضمير المفعول عائد على من قاتله ، وهم كفار مكة ، والفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المسلمين ، أمروا بقتالهم حتى لا يعبد غير الله ، ولا يسن بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسدي . أعني : أن الفتنة هنا الشرك وما تابعه من الأذى ، وقيل : الضمير لجميع الكفار ، أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان ، فالآية عامة تتناول كل كافر من مشرك وغيره ، ويخص منهم بالجزية من دل [ ص: 68 ] الدليل عليه ، وقد تقدم قول من قال : إنها ناسخة ، لقوله : " ولا تقاتلوهم " . قال في ( المنتخب ) : والصحيح ، أنه ليس كذلك ، بل هذه الصيغة عامة وما قبله خاص ، وهو : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ) ، ومذهب الشافعي تخصيص العام ، سواء تقدم على المخصص أم تأخر عنه . وقال أبو مسلم : الفتنة هنا ، القتال في الحرم ، قال أمرهم الله بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال ، الذي إذا بدءوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار . و " حتى " هنا للغاية أو للتعليل ، وإذا فسرت الفتنة بالكفر ، والكفر لا يلزم زواله بالقتال ، فكيف غيا الأمر بالقتال بزواله ؟ والجواب : أن ذلك على حكم الغالب والواقع ، وذلك أن من قتل فقد انقطع كفره وزال ، ومن عاش خاف من الثبات على كفره ، فأسلم ، أو يكون المعنى : وقاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر : لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر ، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه .

( ويكون الدين لله ) الدين هنا : الطاعة ، أي : يكون الانقياد خالصا لله ، وقيل : الدين هنا السجود والخضوع لله وحده ، فلا يسجد لغيره ، وغيى هنا الأمر بالقتال بشيئين ، أحدهما : انتفاء الفتنة ، والثاني : ثبوت الدين لله ، وهو عطف مثبت على منفي ، وهما في معنى واحد ومتلازمان : لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع ، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غيى بأمرين مختلفين ، أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى . قيل وجاء في الأنفال : ( ويكون الدين كله لله ) ، ولم يجئ هنا " كله " : لأن آية الأنفال في الكفار عموما ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه . قيل : وهذا لا يتوجه إلا على قول من جعل الضمير في " وقاتلوهم " عائدا على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلا عليه بقوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ، فعارضه بقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) ، فقال : ألم يقل : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ، فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .

( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) . متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الإسلام ، أو عن القتال . وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة .

والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلا على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء . سماه عدوانا من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ، ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ) ، ( ومكروا ومكر الله ) ، وقال الشاعر :


جزينا ذوي العدوان بالأمس قرضهم قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل



وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ : لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلا على الظالمين ، انتهى كلامه . وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، وذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلا ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلا لوجود العدوان على غير الظالم . فكأنه يكون إخبارا غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى . وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال [ ص: 69 ] عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلا الله . وقال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على من لم ينته ، وهو الظالم .

قال الزمخشري : فلا تعتدوا على المنتهين : لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : " إلا على الظالمين " موضع : على المنتهين ، انتهى كلامه . وهذا الذي قاله لا يصح إلا على تفسير المعنى ، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح : لأن على المنتهين ، ليس مرادفا لقوله : " إلا على الظالمين " : لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلا بالمفهوم مفهوم الصفة . وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي وإلا ، وفرق بين الدلالتين ، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب . ألا ترى قوله : فوضع قوله : " إلا على الظالمين " موضع : على المنتهين ؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب ، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين ، ألا ترى فرق ما بين قولك : ما أكرم الجاهل ، وما أكرم إلا العالم ؟

و " إلا على الظالمين " استثناء مفرغ من الإخبار " على الظالمين " ، في موضع رفع على أنه خبر " لا " على مذهب الأخفش ، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع " لا عدوان " ، على مذهب سيبويه . وقد تقدم التنبيه على ذلك ، وجاء بعلى ، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه .

وقيل : معنى لا عدوان ، لا سبيل ، كقوله : ( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) ، أي : لا سبيل علي ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض ، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان . ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي : إلا على الظالمين منهم ، أو بالاندراج في عموم الظالمين ، فكان الربط بالعموم .

التالي السابق


الخدمات العلمية