صفحة جزء
( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ) ، سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدم النهي عن الحلق إلى الغاية ، التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملا ، فخص بمن ليس مريضا ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضا ، ففعل ما ينافي المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم . وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر : لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة .

و " منكم " متعلق بمحذوف ، وهو في موضع الحال : لأنه قبل تقدمه كان صفة " لمريضا " فلما تقدم انتصب على الحال . و " من " هنا للتبعيض . وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقا بـ " مريضا " وهو لا يكاد يعقل ، و " أو به أذى من رأسه " ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفا على قوله " مريضا " ويرتفع " أذى " على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائنا به أذى من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله " مريضا " ، وهي في موضع مفرد : لأن المعطوف على المفرد مفرد في التقدير ، إذا كان جملة ، ويرتفع " أذى " إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفا على إضمار كان ، لدلالة كان الأولى عليها . التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إما ضمير يعود على " من " : وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون " أو به أذى من رأسه " معطوفا على كان ، و " أذى " رفع بالابتداء ، و " به " الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في " به " عائدة على " من " وكان قد قدم أبو البقاء أن " من " شرطية ، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ : لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية : لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون " من " موصولة : لأنها إذ ذاك مضمنة معنى اسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في " به " للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، و " من رأسه " يجوز أن يكون متعلقا بما يتعلق به " به " وأن يكون في موضع الصفة لـ " أذى " ، وعلى التقديرين يكون " من " لابتداء الغاية .

( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ارتفاع [ ص: 76 ] " فدية " على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية . وذكر بعض المفسرين أنه قرئ بالنصب على إضمار فعل ، التقدير : فليفد فدية . و " من صيام " في موضع الصفة ، و " أو " هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أي الثلاثة شاء .

وقرأ الحسن ، والزهري : " أو نسك " بإسكان السين : والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة ، من أن الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة . وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم . وبه قال مالك ، والجمهور : وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام . ومحله زمانا متى اختار ، ومكانا حيث اختار . وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع . وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدان مدان ، بالمد النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود . وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب . وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر : وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم . وقال مالك ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدين مدين ، بمد النبي - صلى الله عليه وسلم .

وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلا ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء ، وقال الحسن ، وطاوس ، ومجاهد ، وعطاء أيضا ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة . قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلا ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلا بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاوس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي .

وظاهر الفدية أنها لا تكون إلا بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق . وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلا بمن به مرض أو أذى فحلق ، فلو حلق ، أو جز ، أو أزال بنورة شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالما ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير ، وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة وغيرها سواء عنده ، فلو فعله ناسيا ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك . وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .

التالي السابق


الخدمات العلمية