صفحة جزء
( فإذا أمنتم ) يعني : من الإحصار ، هذا الأمن مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، جعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة . والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم .

ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض : قال هنا : الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو .

ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه . وقد جاء في الحديث : " الزكام أمان من الجذام " . خرجه ابن ماجه ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص . أي : من وجع السن ، ووجع [ ص: 77 ] الأذن ، ووجع البطن . والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فإذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم .

( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) ، تقدم الكلام في المتاع في قوله : ( ومتاع إلى حين ) ، وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين : لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت إنشاء الحج . واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد الله بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ، ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي .

وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي . وقال علي : أي فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي . وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه . وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدم معتمرا من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامه ذلك ، فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالا يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات .

والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقوع الحج على ثلاثة أنحاء : تمتع ، وإفراد ، وقران . وقد بين ذلك في كتب الفقه . ونهي عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا .

( فما استيسر من الهدي ) ، تقدم الكلام على هذه الجملة تفسيرا وإعرابا في قوله : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) ، فأغنى عن إعادته . والفاء في " فإذا أمنتم " للعطف ، وفي " فمن تمتع " جواب الشرط ، وفي " فما " جواب للشرط الثاني . ويقع الشرط وجوابه جوابا للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلاف الجواب ، نحو : إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق .

وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه . وصورة التمتع على من جعل قوله : " فإذا أمنتم فمن تمتع " خاصة بالمحصرين ، تقدمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات . إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولا في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة ، فيفرغ من العمرة ثم يقيم حلالا إلى أن ينشئ الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد .

الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى قرانا ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معا ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى . فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى : وروي عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور . وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين [ ص: 78 ] العمرة والحج إلا بسياق الهدي ، وهو عندكم بدنة لا يجوز دونها . وقال مالك : ما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء : وقال ابن الماجشون . إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد الله بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن ، لم يكن عليه دم قران ولا تمتع .

الثالثة : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها . وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد .

وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد ، أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه . وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن . وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعا فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعا ، وعلى هذا قالوا : الإجماع : لأن التمتع مغيا إلى الحج ولم يقع المغيا . وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ، ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاوس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية