صفحة جزء
( فمن لم يجد ) مفعول " يجد " محذوف لفهم المعنى ، التقدير : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه . ( فصيام ثلاثة أيام ) . ارتفع صيام على الابتداء ، أي : فعليه ، أو على الخبر ، أي : فواجب . وقرئ " فصيام " بالنصب أي : فليصم صيام ثلاثة أيام ، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع : لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة . ( في الحج ) أي : في أشهر الحج ، فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين ، إحرام العمرة ، وإحرام الحج ، قاله عكرمة ، وعطاء ، وأبو حنيفة قال : والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوما قبلهما ، وإن مضى هذا الوقت لم يجزه إلا الدم ، وقال عطاء أيضا ، ومجاهد : لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي . وقال ابن عمر ، والحسن ، والحكم : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وكل هؤلاء يقولون : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة : لأنه بانقضائه ينقضي الحج . وقال علي ، وابن عمر : لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق : لأنها من أيام الحج . وعن عائشة ، وعروة ، وابن عمر في رواية ابنه سالم عنه : أنها أيام التشريق . وقيل : زمانها بعد إحرامه ، وقيل : يوم النحر ، قاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وطاوس ، وعطاء ، والسدي : وبه قال مالك : وقال الشافعي ، وأحمد : يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة .

وروي هذا عن مالك ، وهو قوله في ( الموطأ ) ليكون يوم عرفة مفطرا . وعن أحمد : يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال قوم : له أن يؤخرها ابتداء إلى يوم التشريق : لأنه لا يجب عليه الصوم إلا بأن لا يجد الهدي يوم النحر . وقال عروة : يصومها ما دام بمكة ، وقاله أيضا مالك ، وجماعة من أهل المدينة ، وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها .

وظاهر قوله : في الحج ، أن يكون المحذوف : زمانا : لأنه المقابل في قوله : ( وسبعة إذا رجعتم ) ، إذ معناه في وقت الرجوع ، ووقت الحج هو أشهره ، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان ، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جوابا للشرط ، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ، أي : في وقته ، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج وبعده ، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق : لأنها من وقت الحج : ومن قدر محذوفا آخر ، أي : في وقت أفعال الحج ، لم يجز الصيام إلا بعد الإحرام بالحج ، والقول الأول أظهر لقلة الحذف ، ومن لم يلحظ أشهر الحج ، وجوز أن يكون ما دام بمكة ، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان ، أي : فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج .

والظاهر : وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي ، فلو ابتدأ في الصوم ، ثم وجد الهدي [ ص: 79 ] مضى في الصوم وهو فرضه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والشافعي ، وأبو ثور ، واختاره ابن المنذر . وقال مالك : أحب أن يهدي ، فإن صام أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن أيسر في اليوم الثالث من صومه ، بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام ، وبه قال الثوري ، وابن أبي نجيح ، وحماد .

( وسبعة إذا رجعتم ) . قرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبدة : " وسبعة " بالنصب . قال الزمخشري : عطفا على محل ثلاثة أيام ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام كقولك : ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ) ، انتهى .

وخرجه الحوفي ، وابن عطية على إضمار فعل ، أي : فليصوموا ، أو فصوموا سبعة ، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه : لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز ، ومجيء " وسبعة " بالتاء هو الفصيح ، إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به ، كما قيل : وسبعة أيام ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام ، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفا ، وعليه جاء : ثم أتبعه بست من شوال ، وحكى الكسائي : صمنا من الشهر خمسا ، والعامل في " إذا " هو " صيام ثلاثة أيام " ، وبه متعلق " في الحج " لا يقال " إذا " عمل فيهما ، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان : لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل ، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين ، كما تقول : أكرمت زيدا يوم الخميس وعمرا يوم الجمعة . و " إذا " هنا محض ظرف ، ولا شرط فيها ، وفي " رجعتم " التفات ، وحمل على معنى : من ، أما الالتفات ، فإن قوله : ( فمن تمتع ) ، ( فمن لم يجد ) ، اسم غائب : ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب ، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رجع ، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع ، ولو راعى اللفظ لأفرد ، ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة .

ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، في آخر : وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة ، وعطاء ، وابن جبير ، ومجاهد ، والربيع ، وقالوا : هذه رخصة من الله تعالى ، والمعنى : إذا رجعتم إلى أوطانكم ، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان : وقال أحمد ، وإسحاق : يجزئه الصوم في الطريق : وقال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ، وهذا مذهب أبي حنيفة . فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق . قال مالك في ( الكتاب ) : إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية