صفحة جزء
واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله عليه السلام : " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه " . وأنه لم يذكر الجدال ، انتهى كلامه . وفيه تعقبات .

الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع ، والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنيا ، وأما أن الرفع يقتضي النهي والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأولين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح ، إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلا على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب .

الثاني قوله كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال : لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين . وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير .

الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان - في تفسير " ولا جدال " - للمتقدمين ، اختلافهم في الموقف لابن زيد ، ومالك ، والنسيء لمجاهد ، فجعلهما هو شيئا واحدا سببا للإخبار أن لا جدال في الحج .

الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك : لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : ( ولا فسوق ) لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطا في غفران الذنوب ، فلذلك رتب - صلى الله عليه وسلم - غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكنى عنه بالرفث : ومن المحظور الممنوع منه مطلقا في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله " ولا جدال " من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج من إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة . فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين .

وقد بقي الكلام على هذه الجملة ، أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخبارا ؟ أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي ؟ اختلفوا في ذلك ، فقال في ( المنتخب ) قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي ، أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : ( لا ريب فيه ) أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها ، وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى إلا إن أريد بالرفث الجماع ، والفسوق الزنا ، وبالجدال الشك في الحج وفي وجوبه : لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله : لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعها لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه : لأن النهي عن الشيء نهي [ ص: 91 ] عن جميع أقسامه . وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية بقوله : ( فلا رفث ) ، وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : ( ولا فسوق ) ، وإلى قهر القوة الوهمية بقوله : ( ولا جدال ) ، فذكر هذه الثلاثة : لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه . انتهى ما لخصناه من كلامه .

والذي نختاره أنها جملة صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي : لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال إنسان مثلا : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره ؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهن فيه ، هكذا الترتيب العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد . وقال في ( المنتخب ) أيضا : إن كان المراد بالرفث الجماع : فيكون نهيا عن ما يقتضي فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفيا للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهيا لكمال الفضيلة . وقال ابن العربي ليس نفيا لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وأخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا ، لا إلى وجوده محسوسا ، كقوله : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ، ومعناه مشروعا لا محسوسا ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : ( لا يمسه إلا المطهرون ) ، إذا قلنا إنه وارد في الآدميين وهو الصحيح : لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفا ، انتهى كلام ابن العربي . وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال ، أحدها : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي الجماع ، والزنا ، والكفر . الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود . الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي . الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأولين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت " من " شرطية ، وفي موضع الخبر إن كانت " من " موصولة . وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط ، إذا كان الشرط بالاسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول ، إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدرا . ويحتمل وجهين . أحدهما : أن يقدر منه بعد " ولا جدال " ، ويكون منه في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، ومنه صفة للمنوين . والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أو له ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط .

وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضا من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله " في الحج " في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط . قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل فيه ، جريا على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :


لا أرى الموت يسبق الموت شيء



انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائدا على " من " ، لا على الحج ، أي : في فارض [ ص: 92 ] الحج . وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الأخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهيا عنها في الحج . أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفا وسلفا ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلا ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريرة ، أنه سمعه يقول : " للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع " . وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبل امرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وإبراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار . وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل امرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطء .

وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهيا عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيما لحرمة الحج : ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها . ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حق الصائم : " فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم " ؟ وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج : " إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له " . ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيما لحرمته . وفي قوله " ولا فسوق " إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية