صفحة جزء
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) ، قيل المراد " بمن " غير معين ، بل هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية لله ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا . وقيل : هي في معين ، فقيل : في الزبير والمقداد بعثهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ليحطا خبيبا من خشبته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجرا فلحقته قريش ، فنثل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نتركك حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضعه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدى من ماله وخرج مهاجرا ، وقيل : في علي حين خلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجرا - صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل لا إله إلا الله ، فلا يقول ، فيقول : والله لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل . وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجرا . وقيل : في المهاجرين والأنصار ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصا طويلا في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية . والذي ينبغي أن يقال إنه تعالى لما ذكر ( ومن الناس من يعجبك قوله ) ، وكان عاما في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاما من يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدار عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذل نفسه لله ولمرضاته . وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصا ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : ( ومن الناس من يشري ) بخلاف قوله : ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) ، فإنه لما قرب ذكر أحد القسمين من المقسم ، أضمر في الثاني المقسم . ومعنى " يشري " : يبيع ، وهو سائغ في اللسان . قال تعالى : ( وشروه بثمن بخس دراهم ) قال الشاعر :

[ ص: 119 ]

وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه



ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه : حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها . وانتصاب " ابتغاء " على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوف لشروط المفعول من أجله من كونه مصدرا متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعني إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافا للجرمي ، والرياشي ، والمبرد ، وبعض المتأخرين ، فإنهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو .

و " مرضاة " : مصدر بني على التاء كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : " مرضاة " ، وعن ورش خلاف في إمالة " مرضاة " ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء . فأما وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال . قال :


دار لسلمى بعد حول قد عفت     بل جوز تيهاء كظهر الحجفت



وقد حكى هذه اللغة سيبويه .

والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد ، كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : ( ابتغاء مرضاة الله ) ، إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى . وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك ؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده .

( والله رءوف بالعباد ) : حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : ( فحسبه جهنم ) ، تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم ، وتقدم أن الرأفة أبلغ من الرحمة .

والعباد إن كان عاما ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة . وإن كان خاصا ، وهو الأظهر : لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : ( فحسبه جهنم ) ، وكان ذلك خاصا بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم : لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ " العباد " التفاتا ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رءوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان ، أحدهما : أن لفظ " العباد " له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ، ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) ، ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ، ( بل عباد مكرمون ) . والثاني : مجيء اللفظة فاصلة : لأن قبله : ( والله لا يحب الفساد ) ( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) ، فناسب : ( والله رءوف بالعباد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية