صفحة جزء
( سل بني إسرائيل ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم . قال الزمخشري : أو لكل أحد . وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس : اسأل . وقرأ قوم : اسل ، وأصله اسأل ، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين ، ولم تحذف همزة الوصل : لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها ، كما قالوا : الحمر في الأحمر . وقرأ الجمهور : " سل " ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن أصله اسأل ، فلما نقل وحذف اعتد بالحركة ، فحذف الهمزة لتحرك ما بعدها ، والوجه الآخر : أنه جاء على لغة من يجعل المادة من ( سين ، وواو ، ولام ) ، فيقول : سأل يسأل ، فقال : سل ، كما قال خف ، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل ، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة ، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو : خافا وخافوا وخافي .

ولما تقدم : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل ) ، وكان المعنى في ذلك استبطاء لحوقهم بالإسلام ، وأنهم لا ينظرون إلا آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام ، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة ، ولم تنفعهم تلك الآيات ، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم ، وهذا السؤال ليس سؤالا عما لا يعلم ، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات ، وإنما هو سؤال عن معلوم ، فهو تقريع وتوبيخ ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات ، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد : ( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ) .

وفي هذا السؤال أيضا تثبيت وزيادة ، كما قال تعالى : ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) ، أو زيادة يقين المؤمن ، فالخطاب في اللفظ له - صلى الله عليه وسلم - والمراد : أمته ، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقومه لم يكونوا يعرفون شيئا من قصص بني إسرائيل ، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن ينزل الله ذلك في كتابه .

( بني إسرائيل ) من كان بحضرته منهم ، ، أو من آمن به منهم ، أو علماؤهم ، أو أنبياؤهم ، أقوال أربعة . و ( كم ) في موضع نصب على أنها مفعول ثان لـ ( آتيناهم ) على مذهب الجمهور ، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره ، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده ، وجعل ذلك من باب الاشتغال ، قال : و " كم " في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها : لأن لها صدر الكلام ، تقديره : كم آتيناهم ، أو بإتيانهم ، انتهى . وهذا غير جائز إن كان قوله : " من آية " تمييزا لـ " كم " : لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الاشتغال . ونظير ما أجاز أن يقول : زيدا ضربت ، فتعرب زيدا مفعولا بفعل محذوف [ ص: 127 ] يفسره ما بعده ، التقدير : زيدا ضربت ضربت ، وكذلك : الدرهم أعطيت زيدا ، ولا نعلم أحدا ذهب إلى ما ذهب إليه ، بل نصوص النحويين ، سيبويه فمن دونه ، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده ، وإن كان تمييز " كم " محذوفا . وأطلقت " كم " على القوم أو الجماعة ، فكان التقدير : كم من جماعة آتيناهم ، فيجوز ذلك ، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على " كم " ، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون " كم " في موضع رفع بالابتداء ، والجملة من قوله " آتيناهم " في موضع الخبر ، والعائد محذوف ، التقدير : آتيناهموه ، أو آتيناهموها ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر ، أو في شاذ من القرآن ، كقراءة من قرأ ( أفحكم الجاهلية يبغون ) برفع الحكم ، وقال ابن مالك : لو كان المبتدأ غير كل ، والضمير مفعولا به ، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار ، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار ، ويرونه ضعيفا ، انتهى . فإذا كان لا يجوز إلا في الاضطرار ، أو ضعيفا ، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك ورجحانه ؟ وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه . و " كم " هنا استفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الاستفهام ، وقد يخرج الاستفهام عن حقيقته إذا تقدمه ما يخرجه ، نحو قولك : سواء عليك أقام زيد أم قعد ، وما أبالي أقام زيد أم قعد ، وقد علمت أزيد منطلق أو عمرو ، وما أدري أقريب أم بعيد ، فكل هذا صورته صورة الاستفهام ، وهو على التركيب الاستفهامي وأحكامه ، وليس على حقيقة الاستفهام . وهذه الجملة من قوله : ( كم آتيناهم ) في موضع المفعول الثاني لـ " سل " : لأن سأل يتعدى لاثنين ، أحدهما : بنفسه ، والآخر : بحرف جر ، إما عن ، وإما الباء . وقد جمع بينهما في الضرورة نحو :


فأصبحن لا يسألنه عن بما به



و ( سأل ) هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية ، فهي عاملة في المعنى ، غير عاملة في اللفظ : لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا الجار ، قالوا : وإنما علقت " سل " وإن لم تكن من أفعال القلوب : لأن السؤال سبب للعلم ، فأجري السبب مجرى المسبب في ذلك ، وقال تعالى : ( سلهم أيهم بذلك زعيم ) ، وقال الشاعر :


سائل بني أسد : ما هذه الصوت



وقال :


واسأل بمصقلة البكري ما فعلا



وأجاز الزمخشري أن تكون " كم " هنا خبرية ، قال : ( فإن قلت ) : كم استفهامية أم خبرية ؟ قلت : يحتمل الأمرين ، ومعنى الاستفهام فيها التقدير . انتهى كلامه . وهو ليس بجيد : لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال : لأنه يصير المعنى : سل بني إسرائيل ، وما ذكر المسئول عنه ، ثم قال : كثيرا من الآيات آتيناهم ، فيصير هذا الكلام مفلتا مما قبله : لأن جملة " كم آتيناهم " صار خبرا صرفا لا يتعلق به " سل " وأنت ترى معنى الكلام ومصب السؤال على هذه الجملة ، فهذا لا يكون إلا في الاستفهامية ، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف ، وهو المفعول الثاني لـ " سل " ، ويكون المعنى : سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم أخبر تعالى أن كثيرا من الآيات آتيناهم .

( من آية ) تمييز لـ " كم " ، ويجوز دخول " من " على تمييز الاستفهامية والخبرية ، سواء وليها أم فصل بينهما ، والفصل بينهما بجملة ، وبظرف ومجرور ، جائز على ما قررنا في النحو ، وأجاز ابن عطية أن يكون " من آية " مفعولا ثانيا لـ " آتيناهم " ، وذلك على التقدير الذي قدره قبل ، من جواز نصب " كم " بفعل محذوف يفسره " آتيناهم " ، وعلى التقدير الذي قررناه من أن " كم " تكون كناية عن قوم أو جماعة ، وحذف تمييزها لفهم المعنى ، فإذا كان كذلك ، فإن كانت " كم " خبرية فلا يجوز أن تكون " من آية " مفعولا ثانيا ؛ لأن زيادة " من " لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش ، وإن كانت استفهامية فيمكن أن يقال : يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله ، وفيه بعد : لأن متعلق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : كم من درهم أعطيته من رجل ، على زيادة من ، في قولك من رجل ، [ ص: 128 ] لكان فيه نظر ، وقد أمعنا الكلام على زيادة من ، في ( منهج السالك ) من تأليفنا . والآيات البينات ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحقيق نبوته ، وتصديق ما جاء به ، أو معجزات موسى - صلى الله على نبينا وعليه : كالعصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، أو القرآن قص الله قصص الأمم الخالية حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء ، ولا كتب ولا ارتجل ، أو معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كتسبيح الحصى ، وتفجير الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، وتسليم الحجر ، أربعة أقوال ، وقدروا بعد قوله " من آية بينة " محذوفا ، فقدره بعضهم : فكذبوا بها ، وبعضهم : فبدلوها .

( ومن يبدل نعمة الله ) . نعمة الله : الحجج الواضحة الدالة على أمره - صلى الله عليه وسلم - يبدل بها التشبيه والتأويلات ، أو ما ورد في كتاب الله من نعته - صلى الله عليه وسلم - يبدل به نعت الدجال ، أو الاعتراف بنبوته يبدل بها الجحد لها ، أو كتب الله المنزلة على موسى وعيسى - على نبينا وعليهم السلام - يبدل بها غير أحكامها ، كآية الرجم وشبهها ، أو الإسلام . قاله الطبري . أو شكر النعمة يبدل بها الكفر ، أو آياته وهي أجل نعمة من الله : لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة ، وتبديلهم إياها ، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب ضلالتهم ، كقوله : ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ، قاله الزمخشري . سبعة أقوال .

ولفظ " من يبدل " عام ، وهو شرط ، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمة ، ككفار قريش وغيرهم ، فإن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - نعمة عليهم ، وقد بدلوا بالشكر عليها وقبولها الكفر .

( من بعد ما جاءته ) ، أي : من بعد ما أسديت إليه ، وتمكن من قبولها ، ومن بعد ما عرفها كقوله : ( ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، وأتى بلفظ " من " إشعارا بابتداء الغاية ، وأنه بعقب " ما جاءته " يبدله . وفي قوله : ( من بعد ما جاءته ) تأكيد : لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه . وقرئ : " ومن يبدل " بالتخفيف ، و " يبدل " يحتاج لمفعولين : مبدل ومبدل له ، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر ، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه ، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، وتقدم الكلام على هذا في قوله : ( فبدل الذين ظلموا ) ، وإذا تقرر هذا ، فالمفعول الواحد هنا محذوف ، وهو البدل ، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) ، فـ " كفرا " هو البدل ، و " نعمة الله " هو المبدل ، وهو الذي أصله أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر ، فالتقدير إذن : ومن يبدل نعمة الله كفرا ، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى ، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك ؛ لأنه يترتب على تقدير أن يكون النعمة هي البدل ، والكفر هو المبدل ، أن يجاب بقوله : ( فإن الله شديد العقاب ) خبر يتضمن الوعيد .

ومن حذف حرف الجر لدلالة المعنى قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ، أي : بسيئاتهم ، ولا يصح أن يكون التقدير : سيئاتهم بحسنات ، فتكون السيئات هي البدل ، والحسنات هي المبدل : لأن ذلك لا يترتب على قوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ) .

( فإن الله شديد العقاب ) خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله ، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط ، تقديره : فإن الله شديد العقاب له ، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين ، فيغني عن الربط لقيامها مقام الضمير ، والأولى أن يكون الجواب محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : يعاقبه . قال عبد القاهر في كتاب ( دلائل الإعجاز ) : ترك هذا الإضمار أولى ، يعني بالإضمار شديد العقاب له : لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفا بأنه شديد العقاب ، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا ، ولذلك سمي العذاب عقابا : لأنه يعقب الجرم . وذكر بعض من جمع في التفسير أن هذه الآية : ( سل بني إسرائيل ) مؤخرة في التلاوة ، مقدمة [ ص: 129 ] في المعنى ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : والتقدير : فإن زللتم إلى آخر الآية سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها ، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ؟ أي : أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله ، انتهى . ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض ، متلاحمة التركيب ، واقعة مواقعها ، فالمعنى : أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام ، ثم أخبروا أن من زل جازاه الله العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، ثم قيل : لا ينتظرون في إيمانهم إلا ظهور آيات بينات ، عنادا منهم ، فقد أتتهم الآيات ، ثم سلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات ، بقوله : ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ) ، فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا ، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد ، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز ، باللفظ البليغ الموجز ، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار ، وبنظم ذوي الانحصار ، منزه عنها كلام الواحد القهار .

( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ) . نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم ، ويكذبون بالمعاد ، ويسخرون من المؤمنين الفقراء ، كعمار ، وصهيب ، وأبي عبيدة ، وسالم ، وعامر بن فهيرة ، وخباب ، وبلال ، ويقولون : لو كان نبينا لتبعه أشرافنا ، قاله ابن عباس . في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه . وقال مقاتل : في عبد الله بن أبي ، وأصحابه ، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم . وقال عطاء : في علماء اليهود من بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ، أسهل شيء وأيسره . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني إسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى ، وأنهم بدلوا ، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا ، والاستبشار بها ، وتزيينها لهم ، واستقامتهم للمؤمنين ، فلبني إسرائيل من هذه الآية أكبر حظ : لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، ويكذبون على كتاب الله ، فيكتبون ما شاءوا لينالوا حظا خسيسا من حظوظ الدنيا ، ويقولون : هذا من عند الله .

وقراءة الجمهور : " زين " على بناء الفعل للمفعول ، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل ، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث ، وقرأ ابن أبي عبلة : " زينت " ، بالتاء وتوجيهها ظاهر : لأن المسند إليه الفعل مؤنث ، وحذف الفاعل لفهم المعنى ، وهو الله تعالى ، يؤيد ذلك قراءة مجاهد ، وحميد بن قيس ، وأبي حيوة : " زين " ، على البناء للفاعل ، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى ، إذ قبله : ( فإن الله شديد العقاب ) . وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها ، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها ، أو بالشهوات التي خلقها فيهم ، وإليه أشار بقوله : ( زين للناس حب الشهوات ) الآية ، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه ، فأعجبهم بهجتها ، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية ، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه .

وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حين قدم عليه بالمال ، قال : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا . قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين تزيينا ، ويدل عليه قراءة من قرأ : ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ) على البناء للفاعل ، انتهى كلامه . وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر ، وإنما ذلك من خلق العبد ، فلذلك تأول التزيين على الخذلان ، أو على الإمهال ، وقيل : الزين الشيطان ، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعا ، وتقبيح ما حسن شرعا . والفرق بين التزيينين : أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة ، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع إغفاله ، وتحسينه - بوساوسه - إياها لهم ، وقيل : المزين ، نفوسهم كقوله : ( إن النفس لأمارة بالسوء ) ، [ ص: 130 ] ( فطوعت له نفسه قتل أخيه ) ، ( وكذلك سولت لي نفسي ) ، وقيل : شركاؤهم من الجن والإنس ، قال تعالى ( وكذلك زين لكثير من المشركين ) . الآية ، وقال : ( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض ) . وقيل : المزين هذه الحياة الدنيا . قال : ( أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ) . وقيل : المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي .

( ويسخرون من الذين آمنوا ) . الضمير عائد على الذين كفروا ، وتقدم من هم ، وكذلك تقدم القول في " الذين آمنوا " في سبب النزول ، ومعنى يسخرون : يستهزئون ، وذلك لفقرهم ، أو لاتباعهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، أو لاتهامهم إياهم أنهم مصدقون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، أو لضعفهم وقلة عددهم . أقوال أربعة .

وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله " زين " ، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل : لأنه كان يلزم اتحاد الزمان ، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة ، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه ، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا ، فليس أمرا متجددا ، وصدرت الثانية بالمضارع : لأنها حالة تتجدد كل وقت ، وقيل : هو على الاستئناف أي : الفعل المضارع ، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير : وهم يسخرون ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، ويصير من عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية .

( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) . فوق : ظرف مكان ، فقيل : هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة : لأن المؤمنين في عليين في السماء ، والكفار في سجين في الأرض ، وقيل : الفوقية مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين : نعيم المؤمنين في الجنة ، ونعيم الكافرين في الدنيا ، وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين ، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشي الشبه ، وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم : إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ ، وإما بالنسبة إلى سخرية المؤمنين بهم في الآخرة ، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا ، فهم عالون عليهم ، متطاولون ، يضحكون منهم ، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم ، وإما بالنسبة إلى علو حالهم : لأنهم في كرامة ، والكفار في هوان . وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله : ( والذين اتقوا ) : ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي : ولتبعث المؤمن على التقوى ، وليزول قلق التكرار لو كان " والذين آمنوا " : لأن قبله " الذين آمنوا " ، وانتصاب " يوم القيامة " على الظرف ، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبرا ، أي : كائنون هم يوم القيامة .

ولما فهموا من " فوق " أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه ، وبين من تضاف هي إليه ، كقولك : زيد فوق عمرو في المنزلة ، حتى كأنه قيل : زيد أعلى من عمرو في المنزلة ، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه ، قالابن عطية : وهذا كله من التحميلات ، حفظ لمذهب سيبويه والخليل ، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك ، انتهى كلامه .

وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه ، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل ، فالبصريون يمنعون : زيد أحسن إخوته ، والكوفيون يجيزونه ، وأما أن ذلك في " فوق " فلا نعلمه ، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى ، وأعلى أفعل تفضيل ، نقل الخلاف إليها ، والذي نقوله : إن " فوق " لا تقتضي التشريك في التفضيل ، وإنما تدل على مطلق العلو ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علو ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية ، وإنما هي تدل على مطلقها ، ولا نقول : إنها مرادفة لـ " أسفل " : لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بـ " من " ، كقوله : الركب أسفل منكم ، كما أن أعلى كذلك ، فإذا تقرر هذا كان المعنى ، والله أعلم : والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة ، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علو ، بل المعنى أن العلو يوم القيامة إنما هو للمتقين ، وغيرهم سافلون ، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم .

[ ص: 131 ] ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) ، اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم ، فقيل : هذا الرزق في الآخرة ، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب ، ويكون معنى قوله : " بغير حساب " أي : بغير نهاية ؛ لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب ، أو يكون المعنى : أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض ، فهو بغير حساب ، وقيل : هذا الرزق في الدنيا ، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، يصير إليهم بلا حساب ، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره ، قاله ابن عباس ، وقال نحوه القفال ، قال : قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه . وقالوا ما معناه : إنها متصلة بالكفار ، وقال الزمخشري : يعني أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه ، كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة ، وهي استدراجكم بالنعمة ، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم . انتهى كلامه . ولم يذكر غيره في معنى هذه الجملة . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا ، فلا تستعظموا ذلك ، ولا تقيسوا عليه الآخرة ؛ فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان ، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله ، فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة ؛ إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى : إن المؤمن - وإن لم يرزق في الدنيا - فهو فوق الكافر يوم القيامة . انتهى كلامه . والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين ، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا ، بسبب ما رزقوا من التمكن فيها ، والرياسة ، والبسط ، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة ؛ بسبب ما رزقوا من الفوز والتفرد بالنعيم السرمدي ، بين أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة ، وأنه لا يحاسبه أحد ، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي ؛ لأن ذلك لا يكون إلا لمن يخاف نفاذ ما عنده .

وقالوا في الحديث الصحيح : ( يمين الله ملأى ، لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإن ذلك لم ينقص شيئا مما عنده ) . ومفعول يشاء محذوف ، التقدير : من يشاء أن يرزقه ، دل عليه ما قبله ، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها : الفعل ، والفاعل ، والمفعول الأول وهو " من " . فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر ، وإن كان للفاعل فهو من صفاته ، أو للمفعول فهو من صفاته ، فإذا كان للفعل كان المعنى : يرزق من يشاء رزقا غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : العد ؛ فهو لا يحصى ولا يحصر من كثرته ، أو يعني به المحاسبة في الآخرة ، أي : رزقا لا يقع عليه حساب في الآخرة ، وتكون على هذا الباء زائدة . وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال ، المعنى : يرزق الله غير محاسب عليه ، أي : متفضلا في إعطائه لا يحاسب عليه ، أو غير عاد عليه ما يعطيه ، ويكون ذلك مجازا عن التقتير والتضييق ؛ فيكون حساب مصدرا عبر به عن اسم الفاعل من حاسب ، أو عن اسم الفاعل من حسب ، وتكون الباء زائدة في الحال ، وقد قيل : إن الباء زيدت في الحال المنفية ، وهذه الحال لم يتقدمها نفي ، ومما قيل : إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر :


فما رجعت بخائبة ركاب     حكيم بن المسيب منتهاها

أي : فما رجعت خائبة ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدرا عبر به عن اسم المفعول ، أي : غير محاسب على ما يعطي تعالى ، أي : لا أحد يحاسب الله تعالى على ما منح ؛ فعطاؤه غمرا لا نهاية له . وإذا كان لـ " من " وهو المفعول الأول ليرزق ، فالمعنى أن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى ؛ فيكون أيضا حالا منه ، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب ، أو المفعول من [ ص: 132 ] حسب ، أي : غير معدود عليه ما رزق ، أو على حذف مضاف ، أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : المحاسبة أو العد ، والباء زائدة في هذه الحال أيضا ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى : أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظن ، ولا يقدر أن يأتيه الرزق ، كما قال : ( ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ؛ فيكون حالا أيضا ، أي : غير محتسب . وهذه الأوجه كلها متكلفة ، وفيها زيادة الباء ، والأولى أن تكون الباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بباء الحال ؛ وعلى هذا يصلح أن تكون للمصدر ، وللفاعل ، وللمفعول ، ويكون الحساب مرادا به المحاسبة ، أو العد ، أي : يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق ، أو : ولا حساب للرازق ، أو : ولا حساب على المرزوق .

وكون الباء لها معنى أولى من كونها زائدة ، وكون المصدر باقيا على المصدرية أولى من كونه مجازا عن اسم فاعل أو اسم مفعول وكونه مضافا لغير أولى من جعله مضافا لذي محذوفة ، ولا تعارض بين قوله : ( جزاء من ربك عطاء حسابا ) ، أي : محسبا ، أي : كافيا ، من أحسبني كذا إذا كفاك ، وبغير حساب معناه العد أو المحاسبة ، أو لاختلاف متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد ، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة ، فبغير حساب في التفضل المحض ، وعطاء حسابا في الجزاء المقابل للعمل ، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما ، فبغير حساب في الدنيا ؛ إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه ، وفي الآخرة يحاسب ، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به ، فبغير حساب الله تعالى ، وهو حال منه ، أي : يرزق ولا يحاسب عليه ، أو ولا يعد عليه ، وحسابا صفة للعطاء ، فقد اختلف من جهة من قاما به ، وزال بذلك التعارض .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة - من أواخر أقوال الحج وأفعاله - الأمر بذكر الله في أيام معدودات ، أي : قلائل ، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به ؛ لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي ، ودل الأمر على مشروعيته في أيام ، وهو جمع ، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها ، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث ، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم ، وإن كان حال من تأخر أفضل ، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم ، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم ؛ فلذلك أخبر أن الله رفع الإثم عنهما ؛ إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه الله تعالى ، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى الله تعالى ، ثم أمر بالتقوى ، وتكرار الأمر بها في الحج ، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى ، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه ، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها ، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى ؛ قسم الله تعالى ذلك إلى قسمين ؛ فقال : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) ، أي : يؤنقك ويروق لفظه ، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهرا ، ثم لا يكتفي بما زور ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد الله على ما في قلبه من ذلك ؛ فيحلف بالله أن سريرته مثل علانيته ، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة ، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي الأرض ، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقا ، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود ، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ؛ فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، ثم ذكر أنه من شدة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى الله تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم ، أي : مصحوبا بالإثم ، فليس غضبه لله ، إنما هو لغير الله ؛ فلذلك استصحبه الإثم .

ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغتر بغير الله ، وهو جهنم ، فهي كافية له ، ومبدلته بعد عزه ذلا ، ثم ذم تعالى ما مهد لنفسه من جهنم ، وبئس لغاية الذم ، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم ، وهو من باع نفسه في طلاب رضى الله تعالى ، واكتفى بهذا الوصف الشريف ؛ إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات ؛ إذ صار عبد الله [ ص: 133 ] يوجد حيث رضي الله تعالى . ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف الله به ورحمه ، ورأفة الله به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان ، وذكر الرأفة التي هي - قيل - أرق من الرحمة .

ثم نادى المؤمنين بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) ، وأمرهم بالدخول في الإسلام ، وثنى بالنهي ؛ لأن الأمر أشق من النهي ؛ لأن الأمر فعل والنهي ترك ؛ ولمجاورته قوله : ( ومن الناس من يشري نفسه ) ؛ فصار نظير : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ) ، ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي سلوك معاصي الله ؛ أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ؛ لأن في إيضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ؛ فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) .

ثم أعرض تعالى عن خطابهم ، وأخبر عنهم إخبار الغائبين ، مسليا لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام ، فقال : ما ينتظرون إلا قيام الساعة يوم فصل الله بين العباد ، وقضاء الأمر ، ورجوع جميع الأمور إليه ، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم ، كما جاء في الحديث : ( أن يوم القيامة يأتيهم الله في صورة كذا ) ، على ما يليق بتقديسه عن جميع ما يشبه المخلوقين ، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص .

ثم قال تعالى : سل بني إسرائيل منبها على أن دأب من أرسل إليهم الأنبياء ، وظهرت لهم المعجزات ؛ الإعراض عن ذلك ، وعدم قبول الإيمان ، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه ، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق . ثم أخبر تعالى أن من بدل نعمة الله عاقبه أشد العقاب ، قابل نعمة الله التي هي مظنة الشكر بالكفر . ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم الله ، وهو تزيين الحياة الدنيا ، فرغبوا في الفاني وزهدوا في الباقي ؛ إيثارا للعاجل على الآجل ، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين ؛ حيث ما يتوهم في وصف الإيمان ، والرغبة فيما عند الله تعالى ، وذكر أنهم العالون يوم القيامة ، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون ، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين - وهم الذين يحبهم - بغير حساب ، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير والتقدير ، وأعاد ذكرهم بلفظ من يشاء ؛ تنبيها على إرادته لهم ، ومحبته إياهم ، واختصاصهم به ؛ إذ لو قال : والله يرزقهم بغير حساب ، لفات هذا المعنى من ذكر المشيئة التي هي الإرادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية