صفحة جزء
( والله غفور رحيم ) ، لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله ؛ أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة ، وزاد وصفا آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران ، فكأنه قيل : الله تعالى عند ما ظنوا وطمعوا في ثوابه ؛ فالرحمة متحققة لأنها من صفاته تعالى . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد ، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى ، ومحذرين من عصى من عقاب الله ، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها ؛ ولأنها نتيجتها رضى الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، وأنزل معهم كتابا من عنده مصحوبا بالحق اللائح ؛ ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع ؛ لأن ما جاءوا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار ، وربما يذهب بذهابهم ، فإذا كان ما شرع لهم مخلدا في الطروس كان أبقى ، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم ، وتكاليفهم ، ومصالح دنياهم ، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب ، ووصل إليهم من عند الله ، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم ، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الاختلاف عند هؤلاء سببا للاختلاف ، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه ، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم ، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي اختلف فيه من اختلف ، وذلك بتيسير الله تعالى لهم ، ذلك من غير سابقة استحقاق ، بل هدايته إياهم الحق هو بتمكينه تعالى لذلك . ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط [ ص: 153 ] المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته ، ثم ذكر تعالى مخاطبا للمؤمنين ، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية ؛ أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة ، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلي من كان قبلكم ، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء ، وأنهم أزعجوا ؛ حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به ؛ ولينتظروا الفرج من الله عن قرب ، فأجيبوا بأن نصر الله قريب ، وما هو قريب ، فالحاصل : فسكنت نفوسهم من ذلك الإزعاج بانتظار النصر القريب . ثم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر ؛ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره ، وذكر مصرف ذلك ؛ لأنه هو الأهم في الجواب ، وكأنه قيل : أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم ، وهما الوالدان اللذان كانا سببا في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا ، وفي الحنو عليك ، ثم ذكر الأقربين بصفة التفضيل ؛ لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب ، والإنفاق عليهم صدقة وصلة . ثم ذكر اليتامى : وهم الذين قد توفي آباؤهم ؛ فليس لهم من يقوم بمصالحهم ، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل ، ثم ذكر المساكين ، وهم الذين انتهوا من الفقراء إلى حالة المسكنة ، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها ، ثم أخبر تعالى أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه ، فيجازي عليه ويثيب . ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين ، وأنه مكروه للطباع ؛ لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال ، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره . ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له ؛ لأن عقابه إلى خير ؛ فالقتال - وإن كان مكروها للطبع - فإنه خير إن سلم ؛ فخيره بالظفر بأعداء الله ، وبالغنيمة ، والاستيلاء عليهم قتلا ونهبا ، وتملك دار ؛ وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء ، ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله ، وفيما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله : ( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) ، فمن المحبوب ترك القتال ، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة ، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين ، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم ، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه ، وبلغ منه مقاصده ، ولقد أحسن زهير حيث قال :


جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم

ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون ؛ حيث شرع القتال ، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال . ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الشهر الحرام ؛ لما كان وقع ذلك منهم ، لا على سبيل القصد ، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام ، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير ؛ إذ كانت العادة أن الأشهر الحرم لا قتال فيها . ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله ، ومن الكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، ومن إخراج أهله منه . ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل ، وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه ، أكبر من قتله وهو على دينه ؛ لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار ، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة . ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار ، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ، ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال ، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم . ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل ، ووافى على ذلك ؛ فجميع ما تقدم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار ، وإجراء أحكام المرتدين عليه ، وفي الآخرة ؛ فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفرانا لما اجترح ، بل مآله إلى النار خالدا فيها . ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه ، ذكر حال من آمن [ ص: 154 ] بالله وثبت على إيمانه ، وهاجر من وطنه - الذي هو محل الكفر - إلى دار الإسلام ، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله ، وأنه طامع في رحمة الله . ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل الإيمان ، ولما يتخلل في حالة الإيمان من بعض المخالفة ، وأنه رحيم له ؛ فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية