صفحة جزء
( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) ، أنزل في الخمر أربع آيات : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب ) ب مكة ، ثم هذه الآية ، ثم : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ، ثم : ( إنما الخمر والميسر ) ، قال القفال : ووقع التحريم على هذا الترتيب ؛ لأنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شربها والانتفاع بها كثيرا ؛ فجاء التحريم بهذا التدريج رفقا منه تعالى . انتهى ملخصا . وقال الربيع : نزلت هذه الآية بعد تحريم الخمر ، واختلف المفسرون : هل تدل هذه الآية على تحريم الخمر والميسر أم لا تدل ؟ والظاهر أنها تدل على ذلك ، والمعنى : قل في تعاطيهما إثم كبير ، أي : حصول إثم كبير ؛ فقد صار تعاطيهما من الكبائر ، وقد قال تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم ) ، فما كان إثما أو اشتمل على الإثم فهو حرام ، والإثم هو الذنب ، وإذا كان الذنب كثيرا أو كبيرا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه ، وكيف يقدم على ذلك مع التصريح بالخسران إذا كان الإثم أكبر من النفع ؟ وقال الحسن : ما فيه الإثم محرم ، ولما كان في شربها الإثم سميت إثما في قول الشاعر :


شربت الإثم حتى زل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول

ومن قال : لا تدل على التحريم ، استدل بقوله : ( ومنافع للناس ) ، والمحرم لا يكون فيه منفعة ؛ ولأنها لو دلت على التحريم لقنع الصحابة بها ، وهم لم يقنعوا حتى نزلت آية المائدة ، وآية التحريم في الصلاة . وأجيب بأن المحرم قد يكون فيه منفعة عاجلة في الدنيا ، وبأن بعض الصحابة سأل أن ينزل التحريم بالأمر الواضح الذي لا يلتبس على أحد ؛ فيكون آكد في التحريم . وظاهر الآية الإخبار بأن فيهما إثما كبيرا ومنافع حالة الجواب وزمانه ، وقال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبل التحريم ، فعلى هذا يكون الإثم في وقت والمنفعة في وقت ، والظاهر أنه إخبار عن الحال ، والإثم الذي فيهما هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب ، وقالت طائفة : الإثم الذي في الخمر ذهاب العقل ، والسباب ، والافتراء ، والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة التي في الخمر - قال الأكثرون : ما يحصل منها من الأرباح والأكساب ، وهو معنى قول مجاهد ، وقيل : ما ذكر الأطباء في منافعها : من ذهاب الهم ، وحصول الفرح ، وهضم الطعام ، وتقوية الضعيف ، والإعانة على الباءة ، وتسخية البخيل ، وتصفية اللون ، وتشجيع الجبان ، وغير ذلك من منافعها . وقد صنفوا في ذلك مقالات وكتبا ، ويسمونها " الشراب الريحاني " ، وقد ذكروا أيضا لها مضار كثيرة من جهة الطب . والمنفعة التي في الميسر إيسار القامر بغير كد ولا تعب ، وقيل : التوسعة على المحاويج ؛ فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور ، ويفرقه على الفقراء . وذكر المفسرون هنا حكم ما أسكر كثيره من غير الخمر العنبية ، وحد الشارب ، وكيفية الضرب ، وما يتوقى من المضروب فلا يضرب عليه ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وهو مذكور في علم الفقه . وقرأ حمزة ، والكسائي " إثم كثير " بالثاء ، ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين ، فكأنه قيل : فيه للناس آثام ، أي : [ ص: 158 ] أن كل واحد من متعاطيها إثم ، أو باعتبار ما يترتب على شربها من توالي العقاب وتضعيفه ؛ فناسب أن ينعت بالكثرة ، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرمة ، أو باعتبار من زاولها من لدن كانت إلى أن بيعت وشربت ، فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخمر ، ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، ومعتصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة له ، وآكل ثمنها ؛ فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار . وقرأ الباقون " كبير " بالباء ، وذلك ظاهر ؛ لأن شرب الخمر والقمار ذنبهما من الكبائر ، وقد ذكر بعض الناس ترجيحا لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى ، وهذا خطأ ؛ لأن كلا من القراءتين كلام الله تعالى ؛ فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفسنا ؛ إذ كله كلام الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية