صفحة جزء
( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) ، تقدم هذا السؤال وأجيبوا هنا بذكر الكمية والمقدار ، والسائل في هذه الآية ، قيل : هو عمرو بن الجموح ، وقيل : المؤمنون ، وهو الظاهر من واو الجمع . والنفقة هنا قيل : في الجهاد ، وقيل : في الصدقات . والقائلون في الصدقات ، قيل : في التطوع ، وهو قول الجمهور ، وقيل : في الواجب . والقائلون في الواجب ، قيل : هي الزكاة المفروضة ، وجاء ذكرها هنا مجملا ، وفصلتها السنة . وقيل : كان واجبا عليهم قبل فرض الزكاة أن ينفقوا ما فضل من مكاسبهم عن ما يكفيهم في عامهم ، ثم نسخ ذلك بآية الزكاة . والعفو : ما فضل عن الأهل والمال ، قاله ابن عباس ، أو اليسير السهل الذي لا يجحف بالمال ، قاله طاوس ، أو الوسط الذي لا سرف فيه ولا تقصير ، قاله الحسن ، أو الطيب الأفضل ، قاله الربيع ، أو الكثير من قوله : ( حتى عفوا ) أي : كثروا ، قال الشاعر :


ولكنا يعض السيف منها بأسوق عافيات اللحم كوم

أو الصفو ، يقال : أتاك عفوا ، أي : صفوا بلا كدر ، قال الشاعر :


خذي العفو مني تستديمي مودتي     ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

أو ما فضل عن ألف درهم ، أو قيمة ذلك من الذهب ، وكان ذلك فرض عليهم قبل فرض الزكاة ، قاله قتادة . أو ما فضل عن الثلث . أو عن ما يقوتهم حولا لذوي الزراعة ، وشهرا لذوي الفلات ، أو عن ما يقوته يومه للعامل بهذه ، وكانوا مأمورين بذلك ، فشق عليهم ؛ ففرضت الزكاة . أو الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد ، وما لا يستنفد المال ويبقي صاحبه يسأل الناس ، قاله الحسن أيضا . وقد روي في حديث الذي جاء يتصدق ببيضة من ذهب ، حذف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه بها ، وقوله : ( يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويقعد يتكفف الناس ، إنما الصدقة على ظهر غنى ) . وفي حديث سعد : ( لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) . وقال الزمخشري : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع . وقال ابن عطية : المعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة . وقال الراغب : العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع ، وهو الفضل عن [ ص: 159 ] الغنى ، وقال الماتريدي : الفضل عن القوت . وقرأ الجمهور " العفو " بالنصب ، وهو منصوب بفعل مضمر تقديره " قل ينفقون العفو " ، وعلى هذا الأولى في قوله : " ماذا ينفقون " أن يكون ماذا في موضع نصب بينفقون ، وتكون كلها استفهامية . التقدير : أي شيء ينفقون ؟ فأجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال . ويجوز أن تكون " ما " استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، و " ذا " موصولة بمعنى الذي ، وهي خبره ، ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقا للسؤال من حيث اللفظ ، بل من حيث المعنى ، ويكون العائد على الموصول محذوفا لوجود شرط الحذف فيه ، تقديره : ما الذي ينفقونه ؟ ، وقرأأبو عمرو : " قل العفو " بالرفع ، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدإ محذوف تقديره : " قل المنفق العفو " ، وأن يكون " ما " في موضع رفع بالابتداء ، و " ذا " موصول ، كما قررناه ؛ ليطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاما منصوبا بينفقون ، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ ، واختلف عن ابن كثير في العفو ، فروي عنه النصب كالجمهور ، والرفع ك أبي عمرو . وقال ابن عطية - وقد ذكر القراءتين في العفو - ما نصه : وهذا متركب على " ما " ، فمن جعل ما ابتداء ، و " ذا " خبره بمعنى الذي ، وقدر الضمير في ينفقونه عائدا ؛ قرأ العفو بالرفع لتصح مناسبة الحمل ، ورفعه على الابتداء تقديره : العفو إنفاقكم ، أو : الذي ينفقون العفو . ومن جعل " ماذا " اسما واحدا مفعول " ينفقون " قرأ العفو بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب . ورفع العفو مع نصب " ما " جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها . انتهى كلامه . وتقديره : العفو إنفاقكم ، ليس بجيد ؛ لأنه أتى بالمصدر ، وليس السؤال عن المصدر ، وقوله : جائز ، ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر ، بل هو جائز ، وليس بضعيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية