( 
ويسألونك عن اليتامى   ) ، سبب نزولها أنهم 
كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما ، ويتجنبون أموالهم ، قاله 
الضحاك  ، 
والسدي    . وقيل : لما نزلت : ( 
ولا تقربوا مال اليتيم   ) ، ( 
إن الذين يأكلون أموال اليتامى   ) ؛ تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم ؛ فنزلت ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=15990وابن المسيب    . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر ، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال ، وذكر السؤال عن النفقة ، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم ، ناسب ذلك النظر في حال اليتيم ، وحفظ ماله ، وتنميته ، وإصلاح اليتيم بالنظر في تربيته ، فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم ، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه ، فيكون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم . والظاهر   
[ ص: 161 ] أن السائل جمع الاثنين بواو الجمع وهي للجمع به ، وقيل به . وقال 
مقاتل    : السائل 
ثابت بن رفاعة الأنصاري  ، وقيل : 
 nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة  ، وقيل : السائل من كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين ؛ فإن العرب كانت تتشاءم بخلط أموال اليتامى بأموالهم ؛ فأعلم تعالى المؤمنين أنما كانت مخالطتهم مشئومة لتصرفهم في أموالهم تصرفا غير سديد ، كانوا يضعون الهزيلة مكان السمينة ، ويعوضون التافه عن النفيس ؛ فقال تعالى : ( 
قل إصلاح لهم خير   ) ، الإصلاح لليتيم بتناول إصلاحه بالتعليم والتأديب ، وإصلاح ماله بالتنمية والحفظ . و " إصلاح " : مبتدأ ، وهو نكرة ، ومسوغ جواز الابتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو " لهم " ، فإما أن يكون على سبيل الوصف ، أو على سبيل المعمول للمصدر ، و " خير " : خبر عن إصلاح ، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله ، فيكون " خير " شاملا للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول ، فتكون الخيرية للجانبين معا ، أي أن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح والمصلح ؛ فيتناول حال اليتيم والكفيل ، وقيل : خير للولي ، والمعنى : إصلاحه لليتيم من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجرا ، وقيل : " خير " عائد لليتيم ، أي : إصلاح الولي لليتيم ، ومخالطته له خير لليتيم من إعراض الولي عنه ، وتفرده عنه ، ولفظ " خير " مطلق ؛ فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح ، والحمل على الإطلاق أحسن . وقرأ 
 nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس    : " قل إصلاح إليهم " ، أي : في رعاية المال وغيره خير من تحرجكم ، أو خير في الثواب من إصلاح أموالكم . 
( 
وإن تخالطوهم فإخوانكم   ) ، هذا التفات من غيبة إلى خطاب ؛ لأن قبله " ويسألونك " ، فالواو ضمير للغائب ، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه ، فالواو ضمير الكفلاء ، وهم ضمير اليتامى ، والمعنى : أنهم إخوانكم في الدين ؛ فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب ، من الشفقة والتلطف ، والإصلاح لذواتهم وأموالهم . والمخالطة : مفاعلة من الخلط وهو الامتزاج ، والمعنى : في المأكل ؛ فتجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري ؛ إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه ، فلا يجد بدا من خلطه بماله لعياله ، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك ، قاله 
أبو عبيد    . أو المشاركة في الأموال والمتاجرة لهم فيها ؛ فتتناولون من الربح ما يختص بكم ، وتتركون لهم ما يختص بهم . أو المصاهرة ، فإن كان اليتيم غلاما زوجه ابنته ، أو جارية زوجها ابنه ، ورجح هذا القول بأن هذا خلطة لليتيم نفسه ، والشركة خلطة لماله ، ولأن الشركة داخلة في قوله : ( 
قل إصلاح لهم خير   ) ، ولم يدخل فيه الخلط من جهة النكاح ، فحمله على هذا الخلط أقرب . وبقوله : " فإخوانكم في الدين " ؛ فإن اليتيم إذا كان من أولاد الكفار وجب أن يتحرى صلاح ماله كما يتحرى في المسلم ، فوجب أن تكون الإشارة بقوله : " فإخوانكم " ، إلى نوع آخر من المخالطة ، وبقوله بعد : " ولا تنكحوا المشركات " ؛ فكأن المعنى : أن المخالطة المندوب إليها في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام . أو الشرب من لبنه وشربه من لبنك ، وأكلك في قصعته وأكله في قصعتك ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    . أو خلط المال بالمال في النفقة والمطعم والمسكن والخدم والدواب ، فيتناولون من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم ، بقدر ما يكون أجرة مثل ذلك في العمل ، والقائلون بهذا منهم من جوز له ذلك ، سواء كان القيم غنيا أو فقيرا ، ومنهم من قال : إذا كان غنيا لم يأكل من ماله . أو المضاربة التي يحصل بها تنمية أموالهم . والذي يظهر أن المخالطة لم تقيد بشيء ، لم يقل في كذا ، فتحمل على أي مخالطة كانت مما فيه إصلاح لليتيم ؛ ولذلك قال : " فإخوانكم " ، أي : تنظرون لهم نظركم إلى إخوانكم مما فيه إصلاحهم . وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد ؛ فقبل بقوله : ( 
قل إصلاح لهم خير   ) ، وبعد بقوله : ( 
والله يعلم المفسد من المصلح   ) ، فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي طريق كان من مخالطة في مطعم ، أو مسكن ، أو متاجرة ،   
[ ص: 162 ] أو مشاركة ، أو مضاربة ، أو مصاهرة ، أو غير ذلك ، وجواب الشرط " فإخوانكم " ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم ، وقرأ 
أبو مجلز    : " فإخوانكم " ، على إضمار فعل ، التقدير : فتخالطون إخوانكم ، وجاء جواب السؤال بجملتين : إحداهما : منعقدة من مبتدإ وخبر ، والثانية : من شرط وجزاء . فالأولى : تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير ، وأبرزت ثبوتية منكرا مبتدأها ليدل على تناوله كل إصلاح على طريق البدلية ، ولو أضيف لعم ، أو لكان معهودا في إصلاح خاص ، فالعموم لا يمكن وقوعه ، والمعهود لا يتناول غيره ؛ فلذلك جاء التنكير الدال على عموم البدل ، وأخبر عنه بـ " خير " الدال على تحصيل الثواب ؛ لتبادر المسلم إلى فعل ما فيه الخير طلبا لثواب الله تعالى . وأبرزت الثانية شرطية ؛ لأنها أتت لجواز الوقوع ، لا لطلبه وندبته . ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم ؛ لجواز تعليمه أمر دين وأدب ، والاستيجار له على ذلك ، وكالإنفاق عليه من ماله ، وقبول ما يوهب له ، وتزويجه ، ومؤاجرته ، وبيعه ماله لليتيم ، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء ، وفي عمله فيه بنفسه مضاربة ، ودفعه إلى غيره مضاربة ، وغير ذلك من التصرفات المنوطة بالإصلاح . ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم ، فيخلطه بنفسه في مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما . قيل : وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة ؛ فدلت على جواز المناهدة التي يفعلها المسافرون في الأسفار ، وهي أن يخرج هذا شيئا من ماله ، وهذا شيئا من ماله ؛ فيخلط وينفق ويأكل الناس ، وإن اختلف مقدار ما يأكلون ، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أجوز . ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف : ( 
فابعثوا أحدكم بورقكم   ) الآية ، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها ، فمن ذلك : 
شراء الوصي من مال اليتيم ، والمضاربة فيه ، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه ، وإنكاح اليتيم لابنته ، وهذا مذكور في كتب الفقه . قيل : وجعلهم إخوانا لوجهين : أحدهما : أخوة الدين ، والثاني : لانتفاعهم بهم ، إما في الثواب من الله تعالى ، وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم ، وكل من نفعك فهو أخوك . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11958الباقر  لشخص : رأيتك في قوم لم أعرفهم ، فقال : هم إخواني ، فقال : أفيهم من إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان ؟ قال : لا ، قال : إذن لستم بإخوان . قيل : وفي قوله : ( فإخوانكم ) دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام ؛ لتسمية الله تعالى إياهم إخوانا لنا . 
( 
والله يعلم المفسد من المصلح   ) ، جملة معناها التحذير ، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح ، ومعنى ذلك : أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به ، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير ؛ لأن من علم بالشيء جازى عليه ؛ فهو تعبير بالسبب عن المسبب ، و " يعلم " هنا متعد إلى واحد ، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضي للتجدد - وإن كان علم الله لا يتجدد - لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح ، وهما وصفان يتجددان من الموصوف بهما ، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما ، وتعلق العمل بالمفسد أولا ليقع الإمساك عن الإفساد . و " من " : متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدى بمن ، كأن المعنى : والله يميز بعلمه المفسد من المصلح . وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح ، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك ، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، أي : المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه ، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب ، وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم لأن المخالطة على قسمين : مخالطة بإفساد ، ومخالطة بإصلاح ؛ ولأنه لما قيل : ( 
قل إصلاح لهم خير   ) فهم مقابله ، وهو أن الإفساد شر ، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح . ومقابله ( 
ولو شاء الله لأعنتكم   ) ، أي : لأحرجكم وشدد عليكم ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ، 
والسدي  ، وغيرهما . أو : لأهلككم ، قاله 
أبو عبيدة    . أو : لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى   
[ ص: 163 ] موبقا ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ، وهو معنى ما قبله . أو : لكلفكم ما يشق عليكم ، قاله الزجاج . أو : لآثمكم بمخالطتهم . أو : لضيق عليكم الأمر في مخالطتهم ، قاله عطاء . أو : لحرم عليكم مخالطتهم ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير    . وهذه أقوال كلها متقاربة . ومفعول " شاء " محذوف لدلالة الجواب عليه ، التقدير : ولو شاء الله إعناتكم ، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه ، وقرأ الجمهور " لأعنتكم " بتخفيف الهمزة ، وهو الأصل ، وقرأ 
البزي  من طريق 
أبي ربيعة  بتليين الهمزة ، وقرئ بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، كقراءة من قرأ " فلا إثم عليه " بطرح الهمزة . قال 
أبو عبد الله نصر بن علي المعروف بابن مريم    : لم يذكر 
ابن مجاهد  هذا الحرف ، 
وابن كثير  لم يحذف الهمزة ، وإنما لينها وحققها ، فتوهموا أنها محذوفة ، فإن الهمزة همزة قطع ؛ فلا تسقط حالة الوصل كما تسقط همزات الوصل عند الوصل . انتهى كلامه . فجعل إسقاط الهمزة وهما ، وقد نقلها غيره قراءة كما ذكرناه . وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى ؛ إذ أزال إعناتهم ومشقتهم في مخالطتهم والنظر في أحوالهم وأموالهم . 
( إن الله عزيز حكيم ) ، قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري    : عزيز : غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ، لكنه حكيم لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم . وقال 
ابن عطية    : عزيز : لا يرد أمره ، وحكيم : أي محكم ما ينفذه . انتهى . وفي وصفه تعالى بالعزة ، وهو الغلبة والاستيلاء إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه ، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبههم على أنهم لا يقهرونهم ، ولا يغالبونهم ، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر ؛ فإن هذا الوصف لا يكون إلا لله . وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم ؛ فليس لكم نظر إلا بما أذنت فيه لكم الشريعة ، واقتضته الحكمة الإلهية ؛ إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع ، فالإصلاح لهم ليس راجعا إلى نظركم ، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم . 
( 
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن   ) ، قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : نزلت في 
 nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة  ؛ أعتق أمة وتزوجها ، وكانت مسلمة ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : نكح أمة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم ، فنزلت . وقال 
مقاتل    : نزلت في 
أبي مرثد الغنوي  ، واسمه 
كناز بن الحصين  ، وفي قول : إنه 
مرثد بن أبي مرثد  ، وهو حليف 
لبني هاشم  استأذن أن يتزوج 
عناق  ، وهي امرأة من 
قريش  ذات حظ من جمال مشركة ، وقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، وروي هذا السبب أيضا عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  بأطول من هذا . وقيل : نزلت في 
حسناء  وليدة سوداء 
 nindex.php?page=showalam&ids=21لحذيفة بن اليمان  ، أعتقها وتزوجها ، ويحتمل أن يكون السبب جميع هذه الحكايات . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة ، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة ، حتى أن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط ، ورجح ذلك كما تقدم ذكره ، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار ، نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين ، وأشار إلى العلة المسوغة للنكاح ، وهي الأخوة الدينية ، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة ، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك . ومناسبة أخرى : أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر ، والأكل في الميسر ، وذكر حكم المنكح ، فكما حرم الخمر من المشروبات ، وما يجر إليه الميسر من المأكولات ، حرم المشركات من المنكوحات . وقرأ الجمهور : " ولا تنكحوا " بفتح التاء من نكح ، وهو يطلق بمعنى العقد ، وبمعنى الوطء بملك وغيره . وقرأ الأعمش : " ولا تنكحوا " بضم التاء من أنكح ، أي : ولا تنكحوا أنفسكم المشركات ، والمشركات هنا : الكفار ؛ فتدخل الكتابيات ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، وقيل : لا تدخل الكتابيات ، والصحيح دخولهن ؛ لعبادة اليهود 
عزيرا  ، والنصارى 
عيسى  ؛ ولقوله : ( 
سبحانه وتعالى عما يشركون   ) ، وهذا القول   
[ ص: 164 ] الثاني هو قول جل المفسرين . وقيل : المراد مشركات العرب ، قاله قتادة . فعلى قول من قال : إنه تدخل فيهن الكتابيات ، يحتاج إلى مجوز نكاحهن ؛ فروي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أنه عموم نسخ ، وعن مجاهد عموم خص منه الكتابيات ، وروي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من على غير دين الإسلام ، ونكاحهن حرام ، والآية محكمة على هذا ، ناسخة لآية المائدة ، وآية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية ، وإن كانت متأخرة في التلاوة ، ويؤكد هذا قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر  في ( الموطأ ) : ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها 
عيسى    . وروي أن 
 nindex.php?page=showalam&ids=55طلحة بن عبيد الله  نكح يهودية ، وأن حذيفة نكح نصرانية ، وأن 
عمر  غضب عليهما غضبا شديدا ، حتى هم أن يسطو عليهما ، وتزوج 
عثمان  نائلة بنت الفرافصة  ، وكانت نصرانية . ويجوز 
نكاح الكتابيات ، قال جمهور الصحابة والتابعين : 
عمر  ، 
وعثمان  ، 
وجابر  ، 
وطلحة  ، 
وحذيفة  ، 
وعطاء  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=15990وابن المسيب  ، 
والحسن  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري  ، وبه قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  ، وعامة أهل 
المدينة  والكوفة  ، قيل : أجمع علماء الأمصار على جواز تزويج الكتابيات ، غير أن 
مالكا   nindex.php?page=showalam&ids=12251وابن حنبل  كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن . واختلف في تزويج المجوسيات ، وقد تزوج 
حذيفة  بمجوسية ، وفي كونهم أهل كتاب خلاف ، وروي عن جماعة أن لهم نبيا يسمى 
زرادشت  ، وكتابا قديما رفع ، روي حديث الكتاب عن 
علي  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس  ، وذكر لرفعه وتغيير شريعتهم سبب طويل ، والله أعلم بصحته . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب الفقه ، وظاهر النهي في قوله : " ولا تنكحوا " التحريم ، وقيل : هو نهي كراهة . " حتى يؤمن " غاية للمنع من نكاحهن ، ومعنى إيمانهن إقرارهن بكلمتي الشهادة ، والتزام شرائع الإسلام . 
( 
ولأمة مؤمنة خير من مشركة   ) ، الظاهر أنه أريد بالأمة الرقيقة ، ومعنى " خير من مشركة " أي : من حرة مشركة ، فحذف الموصوف لدلالة مقابله عليه ، وهو أمة ، وقيل : الأمة هنا بمعنى المرأة ؛ فيشمل الحرة والرقيقة ، ومنه : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373956لا تمنعوا إماء الله مساجد الله   ) . وهذا قول 
الضحاك  ، ولم يذكر 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  غيره ، وفي هذا دليل على جواز نكاح الأمة المؤمنة ، ومفهوم الصفة يقتضي أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة ، كتابية كانت أو غيرها ، وهذا مذهب 
مالك  وغيره ، وأجاز 
أبو حنيفة  وأصحابه نكاح الأمة الكتابية ، وفي الأمة المجوسية خلاف : مذهب 
مالك  وجماعة أنه لا يجوز أن توطأ بنكاح ولا ملك ، وروي عن 
عطاء  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار  أنه لا بأس بنكاحها بملك اليمين ، وتأولا : ( 
ولا تنكحوا المشركات   ) على العقد لا على الأمة المشتراة ، واحتجا بسبي 
أوطاس  ، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهم بملك اليمين . قيل : وفي هذه الآية دليل لجواز 
نكاح القادر على طول الحرة المسلمة للأمة المسلمة ، ووجه الاستدلال أن قوله : ( 
خير من مشركة   ) معناه : من حرة مشركة ، وواجد طول الحرة المشركة واجد لطول الحرة المسلمة ؛ لأنه لا يتفاوت الطولان بالنسبة إلى الإيمان والكفر ، فقدر المال المحتاج إليه في أهبة نكاحها سواء ، فيلزم من هذا أن واجد طول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة المسلمة ؛ وهذا استدلال لطيف . و " أمة " : مبتدأ ، ومسوغ جواز الابتداء الوصف ، و " خير " : خبر ، وقد استدل بقوله " خير " على جواز نكاح المشركة ؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك ، ويكون النهي أولا على سبيل الكراهة ، قالوا : والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين ، ولا حجة في ذلك ؛ لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد لا على سبيل الوجود ، ومنه : ( 
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا   ) ، و " العسل أحلى من الخل " ، وقال 
عمر  في رسالته ل 
أبي موسى    : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي ، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية ، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد اشترك   
[ ص: 165 ] النفعان في مطلق النفع ، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع ، ولا يقتضي ذلك الإباحة ، وما من شيء محرم إلا يكاد يكون فيه نفع ما . وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  والبصريين  في أن لفظة " أفعل " التي للتفضيل لا تصح ؛ حيث لا اشتراك ، كقولك : الثلج أبرد من النار ، والنور أضوأ من الظلمة . وقال 
الفراء  وجماعة من 
الكوفيين    : يصح حيث الاشتراك ، وحيث لا يكون اشتراك . وقال 
إبراهيم بن عرفة    : لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ، ونفيا عن الثاني ، فعلى قول ، هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في الأمة المؤمنة . 
( 
ولو أعجبتكم   ) ، لو : هذه بمعنى إن الشرطية ، نحو : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373960ردوا السائل ولو بظلف شاة محرق   ) . والواو في " ولو " للعطف على حال محذوفة ، التقدير : خير من مشركة على كل حال ولو في هذه الحال ، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال ، وأن ما بعد " لو " هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه ما ، فالإعجاب مناف لحكم الخيرية ، ومقتض جواز النكاح لرغبة الناكح فيها ، وأسند الإعجاب إلى ذات المشركة ، ولم يبين المعجب منها ، فالمراد مطلق الإعجاب ، إما لجمال ، أو شرف ، أو مال ، أو غير ذلك مما يقع به الإعجاب . والمعنى : أن المشركة - وإن كانت فائقة في الجمال والمال والنسب - فالأمة المؤمنة خير منها ؛ لأن ما فاقت به المشركة يتعلق بالدنيا ، والإيمان يتعلق بالآخرة ، والآخرة خير من الدنيا ، فبالتوافق في الدين تكمل المحبة ومنافع الدنيا من الصحبة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وبالتباين في الدين لا تحصل المحبة ولا شيء من منافع الدنيا . 
( 
ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا   ) ، القراءة بضم التاء إجماع من القراء ، والخطاب للأولياء ، والمفعول الثاني محذوف ، التقدير : ولا تنكحوا المشركين المؤمنات ، وأجمعت الأمة على أن 
المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه ما ، والنهي هنا للتحريم ، وقد استدل بهذا الخطاب على 
الولاية في النكاح ، وأن ذلك نص فيها . ( 
ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم   ) ، الكلام في هذه الجملة كالكلام في الجملة التي قبلها ، والخلاف في المراد بالعبد : أهو بمعنى الرقيق أم بمعنى الرجل ؟ كهو في الأمة هناك ، وهل المعنى : خير من حر مشرك ، حتى يقابل العبد ؟ أو من مشرك على الإطلاق فيشمل العبد والحر ، كما هو في قوله : " خير من مشركة " ؟ ( 
أولئك يدعون إلى النار   ) ، هذه إشارة إلى الصنفين : المشركات والمشركين ، و " يدعون " يحتمل أن يكون الدعاء بالقول ، كقوله : ( 
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا   ) ، ويحتمل أن لا يكون القول ، بل بسبب المحبة والمخالطة تسرق إليه من طباع الكفار ما يحمله على الموافقة لهم في دينهم - والعياذ بالله - فتكون من أهل النار . وقيل : معناه يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النار ، وتفرق صاحب هذا التأويل بين الذمية وغيرها ؛ فإن الذمية لا يحمل زوجها على المقاتلة . وقيل : المعنى أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيوافق ؛ فيكون من أهل النار ، والذي يدل عليه ظاهر الآية : أن الكفار يدعون إلى النار قطعا ، إما بالقول ، وإما أن تؤدي إليه الخلطة والتآلف والتناكح ، والمعنى : أن من كان داعيا إلى النار يجب اجتنابه ؛ لئلا يستميل بدعائه دائما معاشره ؛ فيجيبه إلى ما دعاه فيهلك . وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار ؛ لما هم عليه من الالتباس بالمحرمات ، من الخمر ، والخنزير ، والانغماس في القاذورات ، وتربية النسل ، وسرقة الطباع من طباعهم ، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه ، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة ؛ فتقتضي المنع من المناكحة مطلقا . وسيأتي الكلام في سورة المائدة - إن شاء الله تعالى - ونبدي هناك - إن شاء الله - كونها لا تعارض هذه . و " إلى " متعلق بيدعون ، كقوله : ( 
والله يدعو إلى دار السلام   ) ، ويتعدى أيضا باللام ، كقوله :  
[ ص: 166 ] دعوت لما نابني مسورا 
ومفعول يدعون محذوف ، إما اقتصارا ؛ إذ المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى النار من غير ملاحظة مفعول خاص ، وإما اختصارا ؛ فالمعنى : أولئك يدعونكم إلى النار . ( 
والله يدعو إلى الجنة والمغفرة   ) ، هذا مما يؤكد منع مناكحة الكفار ؛ إذ ذكر قسيمان : أحدهما يجب اتباعه ، وآخر يجب اجتنابه ، فتباين القسمان ، ولا يمكن إجابة دعاء الله واتباع ما أمر به إلا باجتناب دعاء الكفار وتركهم رأسا ، ودعاء الله إلى اتباع دينه الذي هو سبب في دخول الجنة ، فعبر بالمسبب عن السبب لترتبه عليه . وظاهر الآية الإخبار عن الله تعالى بأنه هو تعالى يدعو إلى الجنة . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري    : يعني : وأولياء الله - وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة ، وما يوصل إليهما ؛ فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن يؤثروا على غيرهم . انتهى . وحامله على أن ذلك هو على حذف مضاف طلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء ، فلما أخبر عن من أشرك أنه يدعو إلى النار ؛ جعل من آمن يدعو إلى الجنة ، ولا يلزم ما ذكر ، بل إجراء اللفظ على ظاهره من نسبة الدعاء إلى الله تعالى هو آكد في التباعد من المشركين ؛ حيث جعل موجد العالم منافيا لهم في الدعاء ، فهذا أبلغ من المعادلة بين المشركين والمؤمنين . وقرأ الجمهور : " والمغفرة " بالخفض عطفا على الجنة ، والمعنى أنه تعالى يدعو إلى المغفرة ، أي : إلى سبب المغفرة ، وهي التوبة والتزام الطاعات ، وتقدم هنا الجنة على المغفرة ، وتأخر عنها في قوله : ( 
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة   ) ، وفي قوله : ( 
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة   ) ، والأصل فيه تقدم المغفرة على الجنة ؛ لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة ، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل ، وأما هنا ، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة لتحسن المقابلة ؛ فإن قبله : ( 
أولئك يدعون إلى النار   ) ، فجاء ( 
والله يدعو إلى الجنة   ) ؛ وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء الله ، فأتى بالأشرف للأشرف ، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان ، وتهيئة سبب دخول الجنة . وقرأ 
الحسن    : " والمغفرة " بالرفع على الابتداء ، والخبر قوله : ( بإذنه ) ، أي : والمغفرة حاصلة بتيسيره وتسويفه ، وتقدم تفسير الإذن ، وعلى قراءات الجمهور يكون " بإذنه " متعلقا بقوله " يدعو " . 
( 
ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون   ) ، أي : يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس ، أي أن هذا التبيين ليس مختصا بناس دون ناس ، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ ؛ لأن الآية متى كانت جلية واضحة ، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر ، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات من موافقة الأمر ومخالفة النهي . و " للناس " متعلق بـ " يبين " ، و " اللام " معناها الوصول والتبليغ ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة .