صفحة جزء
( ويسألونك عن اليتامى ) ، سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما ، ويتجنبون أموالهم ، قاله الضحاك ، والسدي . وقيل : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم ) ، ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ) ؛ تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم ؛ فنزلت ، قاله ابن عباس ، وابن المسيب . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر ، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال ، وذكر السؤال عن النفقة ، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم ، ناسب ذلك النظر في حال اليتيم ، وحفظ ماله ، وتنميته ، وإصلاح اليتيم بالنظر في تربيته ، فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم ، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه ، فيكون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم . والظاهر [ ص: 161 ] أن السائل جمع الاثنين بواو الجمع وهي للجمع به ، وقيل به . وقال مقاتل : السائل ثابت بن رفاعة الأنصاري ، وقيل : عبد الله بن رواحة ، وقيل : السائل من كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين ؛ فإن العرب كانت تتشاءم بخلط أموال اليتامى بأموالهم ؛ فأعلم تعالى المؤمنين أنما كانت مخالطتهم مشئومة لتصرفهم في أموالهم تصرفا غير سديد ، كانوا يضعون الهزيلة مكان السمينة ، ويعوضون التافه عن النفيس ؛ فقال تعالى : ( قل إصلاح لهم خير ) ، الإصلاح لليتيم بتناول إصلاحه بالتعليم والتأديب ، وإصلاح ماله بالتنمية والحفظ . و " إصلاح " : مبتدأ ، وهو نكرة ، ومسوغ جواز الابتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو " لهم " ، فإما أن يكون على سبيل الوصف ، أو على سبيل المعمول للمصدر ، و " خير " : خبر عن إصلاح ، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله ، فيكون " خير " شاملا للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول ، فتكون الخيرية للجانبين معا ، أي أن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح والمصلح ؛ فيتناول حال اليتيم والكفيل ، وقيل : خير للولي ، والمعنى : إصلاحه لليتيم من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجرا ، وقيل : " خير " عائد لليتيم ، أي : إصلاح الولي لليتيم ، ومخالطته له خير لليتيم من إعراض الولي عنه ، وتفرده عنه ، ولفظ " خير " مطلق ؛ فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح ، والحمل على الإطلاق أحسن . وقرأ طاوس : " قل إصلاح إليهم " ، أي : في رعاية المال وغيره خير من تحرجكم ، أو خير في الثواب من إصلاح أموالكم .

( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) ، هذا التفات من غيبة إلى خطاب ؛ لأن قبله " ويسألونك " ، فالواو ضمير للغائب ، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه ، فالواو ضمير الكفلاء ، وهم ضمير اليتامى ، والمعنى : أنهم إخوانكم في الدين ؛ فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب ، من الشفقة والتلطف ، والإصلاح لذواتهم وأموالهم . والمخالطة : مفاعلة من الخلط وهو الامتزاج ، والمعنى : في المأكل ؛ فتجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري ؛ إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه ، فلا يجد بدا من خلطه بماله لعياله ، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك ، قاله أبو عبيد . أو المشاركة في الأموال والمتاجرة لهم فيها ؛ فتتناولون من الربح ما يختص بكم ، وتتركون لهم ما يختص بهم . أو المصاهرة ، فإن كان اليتيم غلاما زوجه ابنته ، أو جارية زوجها ابنه ، ورجح هذا القول بأن هذا خلطة لليتيم نفسه ، والشركة خلطة لماله ، ولأن الشركة داخلة في قوله : ( قل إصلاح لهم خير ) ، ولم يدخل فيه الخلط من جهة النكاح ، فحمله على هذا الخلط أقرب . وبقوله : " فإخوانكم في الدين " ؛ فإن اليتيم إذا كان من أولاد الكفار وجب أن يتحرى صلاح ماله كما يتحرى في المسلم ، فوجب أن تكون الإشارة بقوله : " فإخوانكم " ، إلى نوع آخر من المخالطة ، وبقوله بعد : " ولا تنكحوا المشركات " ؛ فكأن المعنى : أن المخالطة المندوب إليها في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام . أو الشرب من لبنه وشربه من لبنك ، وأكلك في قصعته وأكله في قصعتك ، قاله ابن عباس . أو خلط المال بالمال في النفقة والمطعم والمسكن والخدم والدواب ، فيتناولون من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم ، بقدر ما يكون أجرة مثل ذلك في العمل ، والقائلون بهذا منهم من جوز له ذلك ، سواء كان القيم غنيا أو فقيرا ، ومنهم من قال : إذا كان غنيا لم يأكل من ماله . أو المضاربة التي يحصل بها تنمية أموالهم . والذي يظهر أن المخالطة لم تقيد بشيء ، لم يقل في كذا ، فتحمل على أي مخالطة كانت مما فيه إصلاح لليتيم ؛ ولذلك قال : " فإخوانكم " ، أي : تنظرون لهم نظركم إلى إخوانكم مما فيه إصلاحهم . وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد ؛ فقبل بقوله : ( قل إصلاح لهم خير ) ، وبعد بقوله : ( والله يعلم المفسد من المصلح ) ، فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي طريق كان من مخالطة في مطعم ، أو مسكن ، أو متاجرة ، [ ص: 162 ] أو مشاركة ، أو مضاربة ، أو مصاهرة ، أو غير ذلك ، وجواب الشرط " فإخوانكم " ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم ، وقرأ أبو مجلز : " فإخوانكم " ، على إضمار فعل ، التقدير : فتخالطون إخوانكم ، وجاء جواب السؤال بجملتين : إحداهما : منعقدة من مبتدإ وخبر ، والثانية : من شرط وجزاء . فالأولى : تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير ، وأبرزت ثبوتية منكرا مبتدأها ليدل على تناوله كل إصلاح على طريق البدلية ، ولو أضيف لعم ، أو لكان معهودا في إصلاح خاص ، فالعموم لا يمكن وقوعه ، والمعهود لا يتناول غيره ؛ فلذلك جاء التنكير الدال على عموم البدل ، وأخبر عنه بـ " خير " الدال على تحصيل الثواب ؛ لتبادر المسلم إلى فعل ما فيه الخير طلبا لثواب الله تعالى . وأبرزت الثانية شرطية ؛ لأنها أتت لجواز الوقوع ، لا لطلبه وندبته . ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم ؛ لجواز تعليمه أمر دين وأدب ، والاستيجار له على ذلك ، وكالإنفاق عليه من ماله ، وقبول ما يوهب له ، وتزويجه ، ومؤاجرته ، وبيعه ماله لليتيم ، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء ، وفي عمله فيه بنفسه مضاربة ، ودفعه إلى غيره مضاربة ، وغير ذلك من التصرفات المنوطة بالإصلاح . ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم ، فيخلطه بنفسه في مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما . قيل : وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة ؛ فدلت على جواز المناهدة التي يفعلها المسافرون في الأسفار ، وهي أن يخرج هذا شيئا من ماله ، وهذا شيئا من ماله ؛ فيخلط وينفق ويأكل الناس ، وإن اختلف مقدار ما يأكلون ، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أجوز . ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف : ( فابعثوا أحدكم بورقكم ) الآية ، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها ، فمن ذلك : شراء الوصي من مال اليتيم ، والمضاربة فيه ، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه ، وإنكاح اليتيم لابنته ، وهذا مذكور في كتب الفقه . قيل : وجعلهم إخوانا لوجهين : أحدهما : أخوة الدين ، والثاني : لانتفاعهم بهم ، إما في الثواب من الله تعالى ، وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم ، وكل من نفعك فهو أخوك . وقال الباقر لشخص : رأيتك في قوم لم أعرفهم ، فقال : هم إخواني ، فقال : أفيهم من إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان ؟ قال : لا ، قال : إذن لستم بإخوان . قيل : وفي قوله : ( فإخوانكم ) دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام ؛ لتسمية الله تعالى إياهم إخوانا لنا .

( والله يعلم المفسد من المصلح ) ، جملة معناها التحذير ، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح ، ومعنى ذلك : أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به ، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير ؛ لأن من علم بالشيء جازى عليه ؛ فهو تعبير بالسبب عن المسبب ، و " يعلم " هنا متعد إلى واحد ، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضي للتجدد - وإن كان علم الله لا يتجدد - لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح ، وهما وصفان يتجددان من الموصوف بهما ، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما ، وتعلق العمل بالمفسد أولا ليقع الإمساك عن الإفساد . و " من " : متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدى بمن ، كأن المعنى : والله يميز بعلمه المفسد من المصلح . وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح ، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك ، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، أي : المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه ، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب ، وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم لأن المخالطة على قسمين : مخالطة بإفساد ، ومخالطة بإصلاح ؛ ولأنه لما قيل : ( قل إصلاح لهم خير ) فهم مقابله ، وهو أن الإفساد شر ، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح . ومقابله ( ولو شاء الله لأعنتكم ) ، أي : لأحرجكم وشدد عليكم ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وغيرهما . أو : لأهلككم ، قاله أبو عبيدة . أو : لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى [ ص: 163 ] موبقا ، قاله ابن عباس ، وهو معنى ما قبله . أو : لكلفكم ما يشق عليكم ، قاله الزجاج . أو : لآثمكم بمخالطتهم . أو : لضيق عليكم الأمر في مخالطتهم ، قاله عطاء . أو : لحرم عليكم مخالطتهم ، قاله ابن جرير . وهذه أقوال كلها متقاربة . ومفعول " شاء " محذوف لدلالة الجواب عليه ، التقدير : ولو شاء الله إعناتكم ، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه ، وقرأ الجمهور " لأعنتكم " بتخفيف الهمزة ، وهو الأصل ، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة بتليين الهمزة ، وقرئ بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، كقراءة من قرأ " فلا إثم عليه " بطرح الهمزة . قال أبو عبد الله نصر بن علي المعروف بابن مريم : لم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف ، وابن كثير لم يحذف الهمزة ، وإنما لينها وحققها ، فتوهموا أنها محذوفة ، فإن الهمزة همزة قطع ؛ فلا تسقط حالة الوصل كما تسقط همزات الوصل عند الوصل . انتهى كلامه . فجعل إسقاط الهمزة وهما ، وقد نقلها غيره قراءة كما ذكرناه . وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى ؛ إذ أزال إعناتهم ومشقتهم في مخالطتهم والنظر في أحوالهم وأموالهم .

( إن الله عزيز حكيم ) ، قال الزمخشري : عزيز : غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ، لكنه حكيم لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم . وقال ابن عطية : عزيز : لا يرد أمره ، وحكيم : أي محكم ما ينفذه . انتهى . وفي وصفه تعالى بالعزة ، وهو الغلبة والاستيلاء إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه ، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبههم على أنهم لا يقهرونهم ، ولا يغالبونهم ، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر ؛ فإن هذا الوصف لا يكون إلا لله . وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم ؛ فليس لكم نظر إلا بما أذنت فيه لكم الشريعة ، واقتضته الحكمة الإلهية ؛ إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع ، فالإصلاح لهم ليس راجعا إلى نظركم ، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم .

( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) ، قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن رواحة ؛ أعتق أمة وتزوجها ، وكانت مسلمة ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : نكح أمة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم ، فنزلت . وقال مقاتل : نزلت في أبي مرثد الغنوي ، واسمه كناز بن الحصين ، وفي قول : إنه مرثد بن أبي مرثد ، وهو حليف لبني هاشم استأذن أن يتزوج عناق ، وهي امرأة من قريش ذات حظ من جمال مشركة ، وقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، وروي هذا السبب أيضا عن ابن عباس بأطول من هذا . وقيل : نزلت في حسناء وليدة سوداء لحذيفة بن اليمان ، أعتقها وتزوجها ، ويحتمل أن يكون السبب جميع هذه الحكايات . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة ، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة ، حتى أن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط ، ورجح ذلك كما تقدم ذكره ، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار ، نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين ، وأشار إلى العلة المسوغة للنكاح ، وهي الأخوة الدينية ، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة ، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك . ومناسبة أخرى : أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر ، والأكل في الميسر ، وذكر حكم المنكح ، فكما حرم الخمر من المشروبات ، وما يجر إليه الميسر من المأكولات ، حرم المشركات من المنكوحات . وقرأ الجمهور : " ولا تنكحوا " بفتح التاء من نكح ، وهو يطلق بمعنى العقد ، وبمعنى الوطء بملك وغيره . وقرأ الأعمش : " ولا تنكحوا " بضم التاء من أنكح ، أي : ولا تنكحوا أنفسكم المشركات ، والمشركات هنا : الكفار ؛ فتدخل الكتابيات ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، وقيل : لا تدخل الكتابيات ، والصحيح دخولهن ؛ لعبادة اليهود عزيرا ، والنصارى عيسى ؛ ولقوله : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) ، وهذا القول [ ص: 164 ] الثاني هو قول جل المفسرين . وقيل : المراد مشركات العرب ، قاله قتادة . فعلى قول من قال : إنه تدخل فيهن الكتابيات ، يحتاج إلى مجوز نكاحهن ؛ فروي عن ابن عباس أنه عموم نسخ ، وعن مجاهد عموم خص منه الكتابيات ، وروي عن ابن عباس أن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من على غير دين الإسلام ، ونكاحهن حرام ، والآية محكمة على هذا ، ناسخة لآية المائدة ، وآية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية ، وإن كانت متأخرة في التلاوة ، ويؤكد هذا قول ابن عمر في ( الموطأ ) : ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى . وروي أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية ، وأن حذيفة نكح نصرانية ، وأن عمر غضب عليهما غضبا شديدا ، حتى هم أن يسطو عليهما ، وتزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة ، وكانت نصرانية . ويجوز نكاح الكتابيات ، قال جمهور الصحابة والتابعين : عمر ، وعثمان ، وجابر ، وطلحة ، وحذيفة ، وعطاء ، وابن المسيب ، والحسن ، وطاوس ، وابن جبير ، والزهري ، وبه قال الشافعي ، وعامة أهل المدينة والكوفة ، قيل : أجمع علماء الأمصار على جواز تزويج الكتابيات ، غير أن مالكا وابن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن . واختلف في تزويج المجوسيات ، وقد تزوج حذيفة بمجوسية ، وفي كونهم أهل كتاب خلاف ، وروي عن جماعة أن لهم نبيا يسمى زرادشت ، وكتابا قديما رفع ، روي حديث الكتاب عن علي ، وابن عباس ، وذكر لرفعه وتغيير شريعتهم سبب طويل ، والله أعلم بصحته . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب الفقه ، وظاهر النهي في قوله : " ولا تنكحوا " التحريم ، وقيل : هو نهي كراهة . " حتى يؤمن " غاية للمنع من نكاحهن ، ومعنى إيمانهن إقرارهن بكلمتي الشهادة ، والتزام شرائع الإسلام .

( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ) ، الظاهر أنه أريد بالأمة الرقيقة ، ومعنى " خير من مشركة " أي : من حرة مشركة ، فحذف الموصوف لدلالة مقابله عليه ، وهو أمة ، وقيل : الأمة هنا بمعنى المرأة ؛ فيشمل الحرة والرقيقة ، ومنه : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) . وهذا قول الضحاك ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وفي هذا دليل على جواز نكاح الأمة المؤمنة ، ومفهوم الصفة يقتضي أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة ، كتابية كانت أو غيرها ، وهذا مذهب مالك وغيره ، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح الأمة الكتابية ، وفي الأمة المجوسية خلاف : مذهب مالك وجماعة أنه لا يجوز أن توطأ بنكاح ولا ملك ، وروي عن عطاء ، وعمرو بن دينار أنه لا بأس بنكاحها بملك اليمين ، وتأولا : ( ولا تنكحوا المشركات ) على العقد لا على الأمة المشتراة ، واحتجا بسبي أوطاس ، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهم بملك اليمين . قيل : وفي هذه الآية دليل لجواز نكاح القادر على طول الحرة المسلمة للأمة المسلمة ، ووجه الاستدلال أن قوله : ( خير من مشركة ) معناه : من حرة مشركة ، وواجد طول الحرة المشركة واجد لطول الحرة المسلمة ؛ لأنه لا يتفاوت الطولان بالنسبة إلى الإيمان والكفر ، فقدر المال المحتاج إليه في أهبة نكاحها سواء ، فيلزم من هذا أن واجد طول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة المسلمة ؛ وهذا استدلال لطيف . و " أمة " : مبتدأ ، ومسوغ جواز الابتداء الوصف ، و " خير " : خبر ، وقد استدل بقوله " خير " على جواز نكاح المشركة ؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك ، ويكون النهي أولا على سبيل الكراهة ، قالوا : والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين ، ولا حجة في ذلك ؛ لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد لا على سبيل الوجود ، ومنه : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) ، و " العسل أحلى من الخل " ، وقال عمر في رسالته ل أبي موسى : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي ، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية ، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد اشترك [ ص: 165 ] النفعان في مطلق النفع ، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع ، ولا يقتضي ذلك الإباحة ، وما من شيء محرم إلا يكاد يكون فيه نفع ما . وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب سيبويه والبصريين في أن لفظة " أفعل " التي للتفضيل لا تصح ؛ حيث لا اشتراك ، كقولك : الثلج أبرد من النار ، والنور أضوأ من الظلمة . وقال الفراء وجماعة من الكوفيين : يصح حيث الاشتراك ، وحيث لا يكون اشتراك . وقال إبراهيم بن عرفة : لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ، ونفيا عن الثاني ، فعلى قول ، هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في الأمة المؤمنة .

( ولو أعجبتكم ) ، لو : هذه بمعنى إن الشرطية ، نحو : ( ردوا السائل ولو بظلف شاة محرق ) . والواو في " ولو " للعطف على حال محذوفة ، التقدير : خير من مشركة على كل حال ولو في هذه الحال ، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال ، وأن ما بعد " لو " هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه ما ، فالإعجاب مناف لحكم الخيرية ، ومقتض جواز النكاح لرغبة الناكح فيها ، وأسند الإعجاب إلى ذات المشركة ، ولم يبين المعجب منها ، فالمراد مطلق الإعجاب ، إما لجمال ، أو شرف ، أو مال ، أو غير ذلك مما يقع به الإعجاب . والمعنى : أن المشركة - وإن كانت فائقة في الجمال والمال والنسب - فالأمة المؤمنة خير منها ؛ لأن ما فاقت به المشركة يتعلق بالدنيا ، والإيمان يتعلق بالآخرة ، والآخرة خير من الدنيا ، فبالتوافق في الدين تكمل المحبة ومنافع الدنيا من الصحبة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وبالتباين في الدين لا تحصل المحبة ولا شيء من منافع الدنيا .

( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) ، القراءة بضم التاء إجماع من القراء ، والخطاب للأولياء ، والمفعول الثاني محذوف ، التقدير : ولا تنكحوا المشركين المؤمنات ، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه ما ، والنهي هنا للتحريم ، وقد استدل بهذا الخطاب على الولاية في النكاح ، وأن ذلك نص فيها . ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) ، الكلام في هذه الجملة كالكلام في الجملة التي قبلها ، والخلاف في المراد بالعبد : أهو بمعنى الرقيق أم بمعنى الرجل ؟ كهو في الأمة هناك ، وهل المعنى : خير من حر مشرك ، حتى يقابل العبد ؟ أو من مشرك على الإطلاق فيشمل العبد والحر ، كما هو في قوله : " خير من مشركة " ؟ ( أولئك يدعون إلى النار ) ، هذه إشارة إلى الصنفين : المشركات والمشركين ، و " يدعون " يحتمل أن يكون الدعاء بالقول ، كقوله : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) ، ويحتمل أن لا يكون القول ، بل بسبب المحبة والمخالطة تسرق إليه من طباع الكفار ما يحمله على الموافقة لهم في دينهم - والعياذ بالله - فتكون من أهل النار . وقيل : معناه يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النار ، وتفرق صاحب هذا التأويل بين الذمية وغيرها ؛ فإن الذمية لا يحمل زوجها على المقاتلة . وقيل : المعنى أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيوافق ؛ فيكون من أهل النار ، والذي يدل عليه ظاهر الآية : أن الكفار يدعون إلى النار قطعا ، إما بالقول ، وإما أن تؤدي إليه الخلطة والتآلف والتناكح ، والمعنى : أن من كان داعيا إلى النار يجب اجتنابه ؛ لئلا يستميل بدعائه دائما معاشره ؛ فيجيبه إلى ما دعاه فيهلك . وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار ؛ لما هم عليه من الالتباس بالمحرمات ، من الخمر ، والخنزير ، والانغماس في القاذورات ، وتربية النسل ، وسرقة الطباع من طباعهم ، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه ، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة ؛ فتقتضي المنع من المناكحة مطلقا . وسيأتي الكلام في سورة المائدة - إن شاء الله تعالى - ونبدي هناك - إن شاء الله - كونها لا تعارض هذه . و " إلى " متعلق بيدعون ، كقوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ) ، ويتعدى أيضا باللام ، كقوله :

[ ص: 166 ]

دعوت لما نابني مسورا

ومفعول يدعون محذوف ، إما اقتصارا ؛ إذ المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى النار من غير ملاحظة مفعول خاص ، وإما اختصارا ؛ فالمعنى : أولئك يدعونكم إلى النار . ( والله يدعو إلى الجنة والمغفرة ) ، هذا مما يؤكد منع مناكحة الكفار ؛ إذ ذكر قسيمان : أحدهما يجب اتباعه ، وآخر يجب اجتنابه ، فتباين القسمان ، ولا يمكن إجابة دعاء الله واتباع ما أمر به إلا باجتناب دعاء الكفار وتركهم رأسا ، ودعاء الله إلى اتباع دينه الذي هو سبب في دخول الجنة ، فعبر بالمسبب عن السبب لترتبه عليه . وظاهر الآية الإخبار عن الله تعالى بأنه هو تعالى يدعو إلى الجنة . وقال الزمخشري : يعني : وأولياء الله - وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة ، وما يوصل إليهما ؛ فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن يؤثروا على غيرهم . انتهى . وحامله على أن ذلك هو على حذف مضاف طلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء ، فلما أخبر عن من أشرك أنه يدعو إلى النار ؛ جعل من آمن يدعو إلى الجنة ، ولا يلزم ما ذكر ، بل إجراء اللفظ على ظاهره من نسبة الدعاء إلى الله تعالى هو آكد في التباعد من المشركين ؛ حيث جعل موجد العالم منافيا لهم في الدعاء ، فهذا أبلغ من المعادلة بين المشركين والمؤمنين . وقرأ الجمهور : " والمغفرة " بالخفض عطفا على الجنة ، والمعنى أنه تعالى يدعو إلى المغفرة ، أي : إلى سبب المغفرة ، وهي التوبة والتزام الطاعات ، وتقدم هنا الجنة على المغفرة ، وتأخر عنها في قوله : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة ) ، وفي قوله : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة ) ، والأصل فيه تقدم المغفرة على الجنة ؛ لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة ، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل ، وأما هنا ، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة لتحسن المقابلة ؛ فإن قبله : ( أولئك يدعون إلى النار ) ، فجاء ( والله يدعو إلى الجنة ) ؛ وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء الله ، فأتى بالأشرف للأشرف ، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان ، وتهيئة سبب دخول الجنة . وقرأ الحسن : " والمغفرة " بالرفع على الابتداء ، والخبر قوله : ( بإذنه ) ، أي : والمغفرة حاصلة بتيسيره وتسويفه ، وتقدم تفسير الإذن ، وعلى قراءات الجمهور يكون " بإذنه " متعلقا بقوله " يدعو " .

( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) ، أي : يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس ، أي أن هذا التبيين ليس مختصا بناس دون ناس ، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ ؛ لأن الآية متى كانت جلية واضحة ، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر ، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات من موافقة الأمر ومخالفة النهي . و " للناس " متعلق بـ " يبين " ، و " اللام " معناها الوصول والتبليغ ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية