صفحة جزء
( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) ، قال ابن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يترك المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها ، فيتركها لا أيما ولا ذات زوج ؛ فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن عباس : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر ، فوقت الله ذلك . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ؛ لأنه تقدم شيء من أحكام النساء ، وشيء من أحكام الأيمان ، وهذه الآية جمعت بين الشيئين . وقرأ عبد الله : " للذين آلوا " بلفظ الماضي . وقرأ أبي ، وابن عباس : " للذين يقسمون " . والإيلاء : كما تقدم ، هو الحلف ، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في الجاهلية ، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء ، فقال ابن عباس : هو الحلف أن لا يطأها أبدا ، وقال ابن مسعود ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن سليمان ، وإسحاق : هو الحلف أن لا يقربها يوما أو أقل أو أكثر ، ثم لا [ ص: 181 ] يطؤها أربعة أشهر ؛ فتبين منه بالإيلاء . وقال الثوري ، وأبو حنيفة : هو الحلف أن لا يطأ أربعة أشهر ، وبعد مضيها يسقط الإيلاء ، ويكون الطلاق ، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء ، وهو الجماع في داخل المدة . وقال الجمهور : هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر أو ما دونها ؛ فليس بمول ، وكانت يمينا محضا ، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي ثور . والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقا ، غير مقيد بزمان ، وظاهر قوله : ( للذين يؤلون ) شمول الحر والعبد ، والسكران والسفيه ، والمولى عليه غير المجنون ، والخصي غير المجبوب ومن يرجى منه الوطء ، وكذا الأخرس بما يفهم عنه من كناية أو إشارة . واختلف في المجبوب فقيل : لا يصح إيلاؤه ، وقيل : يصح ، وأجل إيلاء العبد كأجل إيلاء الحر ؛ لاندراجه في عموم قوله : ( للذين يؤلون ) ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وقال عطاء ، والزهري ، ومالك ، وإسحاق : أجله شهران . وقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة : إيلاؤه من زوجته الأمة شهران ، ومن الحرة أربعة . وقال الشعبي : أجل إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة . وظاهر قوله : ( يؤلون ) مطلق الإيلاء ، فيحصل ، سواء كان ذلك قصد به إصلاح ولد رضيع ، أو لم يقصد ، وسواء كان في مغاضبة ومسارة أو لم يكن ، وقال عطاء ، ومالك : إذا كان لإصلاح ولد رضيع فليس يلزمه حكم الإيلاء ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الشافعي في أحد قوليه ، والقول الآخر : إنه لا اعتبار برضاع ، وبه قال أبو حنيفة . وقال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، والليث : شرطه أن لا يكون في غضب . وقال ابن مسعود ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، الإيلاء في غضب وغير غضب . قال ابن المنذر : وهو الأصح لعموم الآية ، ولإجماعهم على أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى ، وكذلك الإيلاء . والجمهور حملوا قوله : ( للذين يؤلون من نسائهم ) على الحلف على امتناع الوطء فقط . وقال الشعبي ، والقاسم ، وسالم ، وابن المسيب : هو الحلف على الامتناع من أن يطأها ، أو لا يكلمها ، أو أن يضارها ، أو يغاضبها ، فهذا كله عند هؤلاء إيلاء ، إلا أن ابن المسيب قال : إذا حلف لا يكلمها وكان يطؤها فليس بإيلاء ، وإنما تكون تلك إيلاء إذا اقترن بها الامتناع من الوطء . وأقوال من ذكر مع ابن المسيب قالوا ما محتمله ما قاله ابن المسيب ، وما يحتمله أن فساد العشرة إيلاء ، وإلى هذا الاحتمال ذهب الطبري . وظاهر الآية يدل على مذهب هؤلاء ؛ لأنه قال : ( للذين يؤلون من نسائهم ) فلم ينص على وطء ولا غيره . و " من " يتعلق بقوله ( يؤلون ) ، وآلى لا يتعدى بمن ، فقيل " من " بمعنى " على " ، وقيل : بمعنى " في " ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي : على ترك وطء نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم . وقيل : من زائدة ، والتقدير : يؤلون أن يعتزلوا نساءهم . وقيل : يتعلق بمحذوف ، والتقدير : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فتتعلق بما تتعلق به " لهم " المحذوف ، قاله الزمخشري . وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه ، وإنما يتعلق بـ ( يؤلون ) على أحد وجهين : إما أن يكون " من " للسبب ، أي : يحلفون بسبب نسائهم ، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع ، فيعدى بمن ، فكأنه قيل : للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم ، و ( من نسائهم ) عام في الزوجات من حرة وأمة وكتابية ومدخول بها وغيرها . وقال عطاء ، والزهري ، والثوري : لا إيلاء إلا بعد الدخول . وقال مالك ، لا إيلاء من صغيرة لم تبلغ ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها . وظاهر قوله : " للذين يؤلون " ، عموم الإيلاء بأي يمين كانت ، قال الشافعي في ( الجديد ) : لا يقع الإيلاء إلا بالحلف بالله وحده . وقال ابن عباس : كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء ، وبه قال النخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأهل العراق ، ومالك ، وأهل الحجاز ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، والقاضي [ ص: 182 ] أبو بكر بن العربي ، والشافعي في القول الأخير . وقال أبو حنيفة : إذا قال : أقسم بالله ، فهي يمين مطلقا ولا يكون بها موليا ، وإن قال : وإن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول . وقال أبو حنيفة : إن كان ذلك الشهر يمضي قبل الأربعة الأشهر فليس بمول ، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة . وخالف أبو حنيفة فيما إذا قال : إن وطئتك فعلي أن أصلي ركعتين أنه لا يكون موليا . وقال محمد : يكون موليا . وذكر بعض المفسرين هنا فروعا كثيرة في الإيلاء ، وإنما نذكر نحن ما له بعض تعلق بالقرآن على عادتنا ، وليس التفسير موضوعا لاستقراء جزئيات الفروع ، وظاهر قوله : ( للذين يؤلون ) ، حصول اليمين منهم ، سواء حلف أن لا يطأ في موضع معين أو مطلقا ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وإسحاق . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم ، والأوزاعي ، وأحمد : لا يكون موليا من حلف أن لا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار ، فإن حلف أن لا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك . ولا يدخل الذمي في قوله : ( للذين يؤلون ) ؛ لقوله : ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) ، وبه قال مالك ، كما لا يصح ظهار . وقال أبو حنيفة : إن حلف باسم من أسماء الله تعالى ، أو بصفة من صفاته ، أو حلف بما يصح منه كالطلاق ، فهو مول ؛ ولو استثنى المولي في يمينه فالجمهور على أنه لا يكون موليا كسائر الأيمان المقرونة بالاستثناء . وقال ابن القاسم عن مالك : يكون موليا ، لكنه لو وطئ فلا كفارة عليه ، وقاله ابن الماجشون في ( المبسوط ) عن مالك : لا يكون موليا . ( تربص أربعة أشهر ) ، هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل ، لكنه اتسع فيه فصير مفعولا به ؛ ولذلك صحت الإضافة إليه ، وكان الأصل : تربصهم أربعة أشهر ، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع ، فتكون الإضافة على تقدير " في " خلافا لمن ذهب إلى ذلك . وظاهر هذا أن ابتداء أجل الإيلاء من وقت حلف لا من وقت المخاصمة والرفع إلى الحاكم ، قيل : وحكمه ضرب أربعة أشهر ؛ لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج ، وقصة عمر مشهورة في سماع المرأة تنشد بالليل :


ألا طال هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه



وسؤاله : كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقيل له : لا تصبر أكثر من أربعة أشهر ؛ فجعل ذلك أمدا لكل سرية يبعثها .

( فإن فاءوا ) ، أي : رجعوا بالوطء ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، ويكفي من ذلك عند الجمهور مغيب الحشفة للقادر ، فإن كان له عذر أو مرض أو سجن أو شبه ذلك ، فارتجاعه صحيح ، وهي امرأته ، وإن زال عذره فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت ، قاله مالك في ( المدونة ) و ( المبسوط ) . وقال الحسن ، والنخعي ، وعكرمة ، والأوزاعي : يجزي المعذور أن يشهد على فيأته بقلبه ، وقال النخعي أيضا : يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء إذا رأيت أن لم ينتشر ، وقيل : الفيء هو الرضى ، وقيل : الرجوع باللسان بكل حال ، قاله أبو قلابة ، وإبراهيم ، ومن قال إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته . وقال أحمد : إذا كان له عذر يفيء بقلبه ، وقال ابن جبير ، وابن المسيب ، وطائفة : الفيء لا يكون إلا بالجماع في حال القدرة وغيرها من سجن أو سفر أو مرض وغيره . وأمال ( فاءوا ) جرية بن عائذ لقوله " فئت " ، وقرأ عبد الله : " فإن فاءوا فيهن " ، وقرأ أبي : " فإن فاءوا فيها " ، وروي عنه : " فيهن " كقراءة عبد الله . والضمير عائد على الأشهر ، ويؤيد هذه القراءة مذهب أبي حنيفة بأن الفيئة لا تكون إلا في الأشهر ، وإن لم يفئ فيها دخل عليه الطلاق من غير أن يوقف بعد مضي الأربعة الأشهر ، وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان بن عفان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن زيد والحسن ، ومسروق . وقال عمر ، وعثمان ، وعلي أيضا ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عامر ، والمسيب ، ومجاهد ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو [ ص: 183 ] عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف ، فإما فاء وإلا طلق عليه . والقراءة المتواترة : فإن فاءوا بغيرهن ، ولا فيها ، فاحتمل أن يكون التقدير : فإن فاءوا في الأشهر ، واحتمل أن يكون : فإن فاءوا بعد انقضائها .

( فإن الله غفور رحيم ) ، استدل بهذا من قال : إنه إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه ، وإلى هذا ذهب الحسن ، وإبراهيم . وذهب الجمهور : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته ، فيكون الغفران هنا إشعارا بإسقاط الإثم بفعل الكفارة ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وابن المسيب : إنه غفران الإثم ، وعليه كفارة . وعلى المذهب الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة ، وقال أبو حنيفة : ولا كفارة على العاجز عن الوطء إذا فاء ، وقال إسحاق : قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر وتقوى ، أو باب من أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله ، ولا كفارة عليه ، والحجة له ، ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) ، ولم يذكر كفارة . وقيل : معنى ذلك غفور لمآثم اليمين ، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير ، قاله ابن زياد ، وهو راجع للقول الثاني ، وقيل : معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضر بها زوجها ؛ فيكون وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج ، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة .

التالي السابق


الخدمات العلمية