صفحة جزء
( فلا تحل له من بعد ) ، أي : من بعد هذا الطلاق الثالث ، ( حتى تنكح زوجا غيره ) ، والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء ، فحمله ابن المسيب ، وابن جبير ، وذكره النحاس في معاني القرآن له على العقد ، وقال : إذا عقد عليها الثاني حلت للأول ، وإن لم يدخل بها ولم يصبها ، وخالفه الجمهور ؛ لحديث امرأة رفاعة المشهور ، فقال الحسن : لا يحل إلا الوطء والإنزال ، وهو ذوق العسيلة . وقال باقي العلماء : تغييب الحشفة يحل ، وقال بعض الفقهاء : التقاء [ ص: 201 ] الختانين يحل ، وهو راجع للقول قبله ؛ إذ لا يلتقيان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وفي قوله : ( حتى تنكح زوجا غيره ) دلالة على أن نكاح المحلل جائز ؛ إذ لم يعني الحل إلا بنكاح زوج ، وهذا يصدق عليه أنه نكاح زوج فهو جائز ، وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وهو قول الأوزاعي في رواية ، والثوري في رواية ، وقول الشافعي في كتابه الجديد المصري ؛ إذا لم يشترط التحليل في حين العقد . وقال القاسم ، وسالم ، وربيعة ، ويحيى بن سعد : لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم الزوجان ، وهو مأجور ، وقال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي في القديم ، وأبو حنيفة في رواية : لا يجوز ، ولا تحل للأول ، ولا يقر عليه ، وسواء علما أم لم يعلما . وعن الثوري أنه لو شرط بطل الشرط وجاز النكاح ، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة . وقال الحسن ، وإبراهيم : إذا علم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح . وفي قوله : ( زوجا غيره ) دلالة على أن الناكح يكون زوجا ، فلو كانت أمة وطلقت ثلاثا - أو اثنتين على مذهب من يرى ذلك - ثم وطئها سيدها لم تحل للأول ، قاله علي ، وعبيدة ، ومسروق ، والشعبي ، وجابر ، وإبراهيم ، وسليمان بن يسار ، وحماد ، وأبو زياد ، وجماعة فقهاء الأمصار . وروي عن عثمان ، وزيد بن ثابت ، والزبير أنه يحلها إذا غشيها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق . وفي قوله : " زوجا " دلالة أيضا على أنه لو كان الزوج عبدا وهي أمة ووهبها السيد له بعد بت طلاقها ، أو اشتراها الزوج بعد ما بت طلاقها لم تحل له في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجا غيره . قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال ابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن : تحل بملك اليمين . وفي قوله : " زوجا غيره " دلالة على أنه إذا تزوج الذمية المبتوتة من المسلم بالثلاث ذمي ، ودخل بها وطلقت ؛ حلت للأول . وبه قال الحسن ، والزهري ، والثوري ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة . وقال مالك ، وربيعة : لا يحلها . وظاهر قوله : " حتى تنكح زوجا " أنه بنكاح صحيح ، فلو نكحت نكاحا فاسدا لم يحل ، وهو قول أكثر العلماء : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة . وقال الحكم : هو زوج . وأجمعوا على أن المرأة إذا قالت للزوج الأول : قد تزوجت ، ودخل علي زوجي وصدقها ؛ أنها تحل للأول . قال الشافعي : والورع أن لا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته . وفي الآية دليل على أن اسم زوج كاف ، سواء كان قوي النكاح أم ضعيفه ، أو صبيا أو مراهقا ، أو مجبوبا بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي ، وسواء أدخله بيده أو بيدها ، وكانت محرمة أو صائمة ، وهذا كله على ما وصف الشافعي قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك . وقال مالك في أحد قوليه : لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ، ومذهب جمهور الفقهاء أن المطلقة ثلاثا لا تحل لذلك الزوج إلا بخمسة شرائط : تعتد منه ، ويعقد للثاني ، ويطؤها ، ثم يطلقها ، وتعتد منه . وكون الوطء شرطا قيل : ثبت بالسنة ، وقيل : بالكتاب ، وهو قول أبي مسلم . وقيل : هو المختار ؛ لأن أبا علي نقل أن العرب تقول : نكح فلان فلانة بمعنى عقد عليها . ونكح امرأته أو زوجته أي : جامعها . وقد مر لنا طرق من هذا . قال في ( المنتخب ) ، بعد كلام كثير محصوله أن قوله : حتى تنكح زوجا غيره ، يدل على ما تقدم الزوجية ، وهي العقد الحاصل بينهما ، ثم النكاح على من سبقت زوجته ، فيتعين أن يراد به الوطء ، فيكون قوله : " تنكح " دالا على الوطء ، و " زوجا " يدل على العقد . ولا يتعين ما قاله ؛ إذ يجوز أن لا يدل على أن تتقدم الزوجية بجعل تسميته زوجا بما تؤول إليه حاله ، فيكون التقدير : حتى يعقد على من يكون زوجا . وقال في ( المنتخب ) أيضا : أما قول من يقول : الآية لا تدل على الوطء ، وإنما ثبت بالسنة فضعيف ؛ لأن [ ص: 202 ] الآية تقتضي نفي الحل ممدودا إلى غاية ، وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ؛ فيلزم انتفاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء هذه الحرمة عند حصول العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخا للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله : " زوجا " على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال . انتهى . ولا يلزم ما ذكره من هذا الإشكال ، وهو أنه يلزم من ذلك نسخ القرآن بخبر الواحد ؛ لأن القائل يقول : لم يجعل نفي الحل منتهيا إلى هذه الغاية التي هي نكاحها زوجا غيره فقط . وإن كان الظاهر في الآية ذلك ، بل ثم معطوفات قبل الغاية المذكورة في الآية وما بعدها ، يدل على إرادتها ، وهي غايات أيضا ، والتقدير : فلا تحل له من بعد ، أي : من بعد الطلاق الثلاث حتى تنقضي عدتها منه ، وتعقد على زوج غيره ويدخل بها ويطلقها ، وتنقضي عدتها منه ؛ فحينئذ تحل للزوج المطلق ثلاثا أن يتراجعا ، فقد صارت الآية من باب ما يحتاج بيان الحل فيه إلى تقدير هذه المحذوفات وتبيينها ، ودل على إرادتها الكتاب والسنة الثابتة ، وإذا كانت كذلك ، وبين هذه المحذوفات الكتاب والسنة ، فليس ذلك من باب نسخ القرآن بخبر الواحد ، ألا ترى أنه يلزم أيضا من حمل النكاح هنا على الوطء أن يضمر قبله : حتى تعقد على زوج ويطأها . فلا فرق في الإضمار بين أن يكون مقدما على الغاية المذكورة المراد بها الوطء ، أو يكون مؤخرا عنها إذا أريد به العقد ، فهذا إضمار يدل عليه الكتاب والسنة ؛ فليس من باب النسخ في شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية