صفحة جزء
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير )

بلغ [ ص: 206 ] يبلغ بلوغا : وصل إلى الشيء ، قال الشاعر :


ومجر كغلان الأنيعم بالغ ديار العدو ذي زهاء وأركان



والبلغة منه - والبلاغ الأصل - يقع على المدة كلها وعلى آخرها . يقال لعمر الإنسان : أجل ، وللموت الذي ينتهي : أجل ، وكذلك الغاية والأمد . العضل : المنع ، عضل أيمه منعها من الزوج ، يعضلها بكسر الضاد وضمها ، قال ابن هرمة :


وإن فضاء يدي لك فاصطنعني     كرائم قد عضلن عن النكاح



ويقال : دجاج معضل ، إذا احتبس بيضها ، قاله الخليل ، وقال :


ونحن عضلنا بالرماح نساءنا     وما فيكم عن حرمة الله عاضل



ويقال : أصله الضيق ، عضلت المرأة : نشب الولد في بطنها ، وعضلت الشاة ، وعضلت الأرض بالجيش : ضاقت بهم ، قال أوس :


ترى الأرض منا بالفضاء مريضة     معضلة منا بجيش عرمرم



وأعضل الداء الأطباء : أعياهم ، وداء عضال : ضاق علاجه ولا يطاق ، قالت ليلى الأخيلية :


شفاها من الداء العضال الذي بها     غلام إذا هز القناة سقاها



وأعضل الأمر : اشتد وضاق ، وكل مشكل عند العرب معضل ، وقال الشافعي - رحمة الله عليه :


إذا المعضلات تصدينني     كشفت حقائقها بالنظر



الرضع : مص الثدي لشرب اللبن ، يقال منه : رضع يرضع رضعا ورضاعا ورضاعة ، وأرضعته أمه ، ويقال للئيم : راضع ، وذلك لشدة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب ، فيطلب منه اللبن ، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به . الحول : السنة وأحول الشيء صار له حول ، قال الشاعر :


من القاصرات الطرف لو دب محول     من الذر فوق الإتب منها لأثرا



ويجمع على أحوال ، والحول : الحيلة ، وحال الشيء : انقلب ، وتحول : انتقل ، ورجل حول : كثير التقليب والتصرف ، وقد تقدم أن حول يكون ظرف مكان ، تقول : زيد حولك وحواليك وحوالك وأحوالك ، أي : فيما قرب منك من المكان . الكسوة : اللباس ، يقال منه : كسا يكسو ، وفعله يتعدى إلى اثنين ؛ تقول : كسوت زيدا ثوبا ، وقد جاء متعديا إلى واحد ، قال الشاعر :

وأركب في الروع خيفانة كسا وجهها سعف منتشر

ضمنه معنى غطا فتعدى إلى واحد ، ويقال : كسي الرجل فهو كاس ، قال الشاعر :


وأن يعرين إن كسي الجواري



وقال :


واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي



التكليف : الإلزام ، وأصله من الكلف ، وهو الأثر على الوجه من السواد ، فلان كلف بكذا أي : مغرى به ، وقال الشاعر :


يهدى بها كلف الخدين مختبر     من الجمال كثير اللحم عيثوم



الوارث : معروف ، يقال منه : ورث يرث ، بكسر الراء ، وقياسها في المضارع الفتح ، ويقال : أرث وورث ، ويقال الإرث كما يقال ألده في ولده ، والأصل الواو . الفصال : مصدر فصل فصلا وفصالا ، وجمع فصيل ، وهو المفطوم عن ثدي أمه ، وفصل بين الخصمين : فرق فانفصلا ، وفصلت العير : خرجت ، والمعنى : فارقت مكانها ، وفصيلة الرجل : أقرب الناس إليه ، والفصيلة : قطعة من لحم الفخذ ، والتفصيل بمعنى التبيين ؛ ( آيات مفصلات ) ، وتفصيل كل شيء : تبيينه ، وهو راجع لمعنى تفريق حكم من حكم ؛ فيحصل به التبيين ، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد . التشاور في اللغة : هو استخراج الرأي ، من قولهم : شرت العسل [ ص: 207 ] أشوره إذا اجتنيته ، والشورة والمشورة ، وبضم العين وتنقل الحركة ، كالمعونة ، قال حاتم :


وليس على ناري حجاب أكفها     لمقتبس ليلا ولكن أشيرها



وقال أبو زيد : شرت الدابة وشورتها : أجريتها لاستخراج جريها ، وكان مدار الكلمة على الإظهار ، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر ، ومنه الشوار : وهو متاع البيت لظهوره للناظر ، وشارة الرجل هيئته ؛ لأنها تظهر من زيه وتبتدئ من زينته ، وأورد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال : والإشارة هي إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وغيره . انتهى . فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من حيث المعنى فصحيح ، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح ، وقد جرت هذه المسألة بين الأمير بن أغلب متولي أفريقية وبعض العلماء من أهل بلده ، كيف يقال إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه وبنوا من الإشارة تفاعلنا ؟ فقالابن الأغلب : تشاورنا ، وقال ذلك العالم : تشايرنا ، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي - وكان قد أقدمه ابن الأغلب من العراق إلى أفريقية لتعليم أولاده - فقالوا له : كيف تبني من الإشارة : تفاعلنا ؟ فقال : تشايرنا ؛ وأنشد للعرب بيتا شاهدا على ذلك عجزه :


فيا حبذا يا عز ذاك التشاير



فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء ، والمادة الأخرى من ذوات الواو .

( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ) ، نزلت في ثابت بن بشار ، ويقال أسنان الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدتها يومان أو ثلاثة وكادت أن تبين ؛ راجعها ، ثم طلقها ، ثم راجعها ، ثم طلقها ، حتى مضت سبعة أشهر مضارة لها ، ولم يكن الطلاق يومئذ محصورا . والخطاب في " طلقتم " ظاهره أنه للأزواج ، وقيل : لثابت بن يسار ، خوطب الواحد بلفظ الجمع للاشتراك في الحكم ، وأبعد من قال أن الخطاب للأولياء ؛ لقوله : ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) ، ونسبة الطلاق والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جدا . فبلغن أي : قاربن انقضاء العدة والأجل ، هو الذي ضربه الله للمعتدات من الإقراء ، والأشهر ، ووضع الحمل . وأضاف الأجل إليهم لأنه أمس بهن ؛ ولهذا قيل : الطلاق للرجال والعدة للنساء ، ولا يحمل " بلغن أجلهن " على الحقيقة ؛ لأن الإمساك إذ ذاك ليس له ؛ لأنها ليست بزوجة ؛ إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها .

( فأمسكوهن بمعروف ) ، أي : راجعوهن قبل انقضاء العدة ، وفسر المعروف بالإشهاد على الرجعة ، وقيل : بما يجب لها من حق عليه ، قاله بعض العلماء ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن المسيب ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ويحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ؛ قالوا : الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها ، فإن لم يجد طلقها ، فإذا لم يفعل خرج عن حد المعروف ، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها ، حتى قال ابن المسيب : إن ذلك سنة . وفي ( صحيح ) البخاري : تقول المرأة إما أن تطعمني ، وإما أن تطلقني ، وقال عطاء ، والزهري ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه : لا يفرق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم . والقائلون بالفرقة اختلفوا ، فقال مالك : هي طلقة رجعية ؛ لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد ، ولا كانت بعوض ، ولا لضرر بالزوج ؛ فكانت رجعية كضرر المولي ، وقال الشافعي : هي طلقة بائنة ، وقيل : بالمعروف من غير طلب ضراء بالمراجعة . ( أو سرحوهن بمعروف ) ، أي : خلوهن حتى تنقضي عدتها ، وتبين من غير ضرار ، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه ؛ إذ بانقضاء العدة حصلت البينونة . ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) ، هذا كالتوكيد لقوله تعالى : ( فأمسكوهن بمعروف ) ، نهاهم أن لا يكون الإمساك ضرارا ، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله : ( فأمسكوهن بمعروف ) [ ص: 208 ] يحصل بإمساكها مرة بمعروف ، هذا مدلول الأمر ، ولا يتناول سائر الأوقات ، وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات ليعمها ، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل الضرار ؛ فنهى عن هذه الفعلة القبيحة بخصوصها ، تعظيما لهذا المرتكب السيئ الذي هو أعظم إيذاء النساء ، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر . ومعنى " ضرارا " : مضارة ، وهو مصدر ضار ضرارا ومضارة ، وفسر بتطويل العدة ، وسوء العشرة ، وبتضييق النفقة ، وهو أعم من هذا كله ، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه . وانتصب " ضرارا " على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي : مضارين لتعتدوا ، أي : لتظلموهن ، وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء . واللام : لام كي ، فإن كان ضرارا حالا تعلقت اللام به ، أو بـ ( لا تمسكوهن ) وإن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام به ، وكان علة للعلة ، تقول : ضربت ابني تأديبا لينتفع ، ولا يجوز أن يتعلق بـ ( لا تمسكوهن ) ؛ لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلا بالعطف ، أو على البدل ، ولا يمكن هنا البدل لأجل اختلاف الإعراب ، ومن جعل اللام للعاقبة جوز أن يتعلق بـ ( لا تمسكوهن ) ؛ فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة ، وهما مختلفان .

قوله تعالى : ( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ) ، " ذلك " : إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار والعدوان ، وظلم النفس بتعويضها العذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح . ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) ، قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك ؛ فأنزل الله هذه الآية ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( من طلق أو حرر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جد ) . وقال الزمخشري : أي جدوا في الأخذ بها ، والعمل بما فيها ، وارعوها حق رعايتها ، وإلا فقد اتخذتموها هزوا ولعبا ، ويقال لمن لم يجد في الأمر : إنما أنت لاعب وهازئ . انتهى كلامه . وقال معناه جماعة من المفسرين ، وقال ابن عطية : المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي ، وخصها الكلبي بقوله : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ، ( ولا تمسكوهن ) . وقال الحسن : نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازلا ، أو راجع كذلك ، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح ، وأمر الحيض والإيلاء ، والطلاق والعدة ، والرجعة والخلع ، وترك المعاهدة ، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته ، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج ، وله عليها ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن ، وكن عندهم أقل من أن يكون لهن أمر أو حق على الزوج ؛ فأنزل الله فيهن ما أنزل من الأحكام ، وحد حدودا لا تتعدى ، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعد ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله - التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء - هزؤا ، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد ؛ لأنها من أحكام الله ، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه ، وبين العبد والناس . وانتصب " هزؤا " على أنه مفعول ثان لـ " تتخذوا " ، وتقول : هزأ به هزؤا استخف . وقرأ حمزة : " هزأ " بإسكان الزاي ، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز ، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوها تذكر في علم القراءات ، وهو من تخفيف فعل ، كعنق ، وقد تقدم الكلام في ذلك . قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل . وقرأ " هزوا " بضم الزاي وإبدال من الهمزة واوا ، وذلك لأجل الضم . وقرأ الجمهور : " هزؤا " بضمتين ، والهمز قيل : وهو الأصل ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : ( أتتخذنا هزوا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية