صفحة جزء
( حافظوا على الصلوات ) ، قالوا : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها والمطلقات ، وهي متقدمة عليهن في النزول ، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف ، وشبهوها بقوله : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، وبقوله : ( وإذ قتلتم نفسا ) ، قالوا : فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال ؛ لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف ، قالوا : وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا ، زعموا أن قوله تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) ردا لقوله : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، قالوا : وأبعد منه : ( سأل سائل بعذاب واقع ) راجع إلى قوله : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية ، قالوا : ويجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات ، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه ، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات . قالوا : ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف ، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات ، على قوله بعد هذه الآية : ( وقاتلوا في سبيل الله ) ، وهذه كلها أقوال كما ترى . والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى لما ذكر - تعالى - جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات ، وأحكامهم في النكاح ، والوطء ، والإيلاء ، والطلاق ، والرجعة ، والإرضاع ، والنفقة ، والكسوة ، والعدة ، والخطبة ، والمتعة ، والصداق ، والتشطر ، وغير ذلك ، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل ؛ بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال ، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت ، ويبلغ منه الجهد ، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر ، حتى في حالة الفراق ، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلا لمن وفقه الله تعالى ، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده ، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين ؛ فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق ؛ ولذلك جاء : ( فدين الله أحق أن يقضى ) ، فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن عن أداء ما فرض الله عليكم ، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة ، حتى في حالة الخوف ، فلا بد من أدائها رجالا وركبانا ، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء ، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جدا لا بد معها من الصلاة ؛ فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء . وقيل : مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فيكون ذلك عونا لهم على امتثالها ، وصونا لهم عن مخالفتها . وقيل : وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ؛ أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) ناسب أن يأمر بالمحافظة على حقوق الحق ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة - وقد ذكره - ومنها ما يتعلق بالممات ، ذكره بعده في قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية ) الآية . والخطاب : بـ ( حافظوا ) لجميع المؤمنين ، وهل يعم الكافرين ؟ فيه خلاف . و ( حافظوا ) من باب : طارقت النعل ، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدي بعلى ، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين ؛ فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب ، كأنه قيل : احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها ، ومعنى المحافظة هنا : دوام ذكرها ، أو الدوام على [ ص: 240 ] تعجيلها في أول أوقاتها ، أو إكمال فروضها وسننها ، أو جميع ما تقدم ، أقوال أربعة . والألف واللام فيها للعهد ، وهي : الصلوات الخمس . قالوا : وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة ، فالمراد بها الصلوات الخمس . ( والصلاة الوسطى ) ، الوسطى : فعلى مؤنثة الأوسط ، كما قال أعرابي يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم :


يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا



وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل سميت " الوسطى " لكونها بين شيئين ، من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطا بين شيئين ؟ أو من وسط قومه إذا فضلهم ؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ، وذلك أن أفعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ، ألا ترى أنك لا تقول : زيد أموت الناس ؟ ولا : ما أموت زيدا ؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطا بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ؛ لأنه لا تفاضل فيه ؛ فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ؛ لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وإن كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها ، تنبيها على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) ، وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) الآية ، وعلى فضل النخل والرمان في قوله : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) ، وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) . وكثر اختلاف العلماء - من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم - في المراد بالصلاة الوسطى ؛ ولهذا قال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه . والذي تلخص فيه أقوال : أحدها : أنها العصر ، قاله علي ، وابن مسعود ، وأبو أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية عطية ، وأبو سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن بن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاوس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن حميد ، وذر بن حبيش ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، والشافعي في قول ، وعبد الملك بن حبيب من أصحاب مالك ، وهو اختيار الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى بـ ( القبس في شرح موطأ مالك بن أنس ) ، واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره ، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم الأحزاب : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا ) . وقال علي : كنا نراها الصبح حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ؛ فعرفنا أنها العصر . وروى أبو مالك الأشعري ، وسمرة بن جندب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ، وفي مصحف عائشة ، وإملاء حفصة : والصلاة الوسطى ، وهي العصر ، ومن روى : وصلاة العصر ، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى . وقرأ أبي ، وابن عباس ، وعبيد بن عمير : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، على البدل . الثاني : أنها الفجر ، روي ذلك عن عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ، ومعاذ ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن عمر في رواية مجاهد ، وأنس ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وعكرمة ، وطاوس في رواية ابنه ، ومجاهد ، وعبد الله بن شداد ، ومالك ، والشافعي في قول ، وقد قال أبو العالية : صليت مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغداة ؛ فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى ؟ فقالوا : التي صليت قبل ، [ ص: 241 ] ورووا عن أبي رجاء العطاردي قال : ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة ، فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه ، فلما فرغ قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين . الثالث : أنها الظهر ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وأسامة ، وأبي سعيد ، وعائشة . وفي رواية قالوا : وروى زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم ، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك ؛ فأنزل الله تعالى : والصلاة الوسطى يريد الظهر ، وقد روي أنه لا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم ) ؛ فنزلت هذه الآية : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) . الرابع : أنها المغرب ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب . الخامس : أنها العشاء الآخرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن فرقة . السادس : أنها الصلوات الخمس ، قاله معاذ بن جبل . السابع : أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وأبو بكر الوراق ، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وقد رواه نافع عن ابن عمر ، وقاله الربيع بن خيثم ، وقد روي أنه نزلت : " والصلاة الوسطى صلاة العصر " ، ثم نسخت فنزلت : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ؛ فيلزم من هذا نسخ تعيينها ، وأبهمت بعد أن عينت . قال القرطبي المفسر : وهو الصحيح - إن شاء الله - لتعارض الأدلة وعدم الترجيح ، فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها . الثامن : أنها الجمعة ، وفي سائر الأيام الظهر . روي ذلك عن علي ، ذكره ابن حبيب . التاسع : أنها العتمة والصبح ، قاله عمر وعثمان . العاشر : أنها الصبح والعصر معا ، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية . ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة ، ورجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ؛ لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنها التي أراد الله بقوله : ( والصلاة الوسطى ) ، ولأن كونها وسطا بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل . وقد صنف شيخنا الإمام المحدث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتابا في هذا المعنى سماه : ( كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) ، قرأناه عليه ، ورجح فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك عنه علي بن أبي طالب ، واستفاض ذلك عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة ، وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد سبعة أقاويل : أحدها : أنها الجمعة خاصة . الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات . الثالث : أنها صلاة الخوف . الرابع : أنها الوتر ، واختاره أبو الحسن علي بن محمد السخاوي النحوي المقري . الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى . السادس : أنها صلاة العيد يوم الفطر . السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه . فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولا . والذي ينبغي أن نعول عليه منها هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنها صلاة العصر ، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد - رحمه الله - أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر إسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي ، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر - حرسها الله - عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري ، قال : أخبرنا فقيه الحرم أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال : أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي ( ح ) . وأخبرنا [ ص: 242 ] أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، بقراءتي عليه بغرناطة ، من جزيرة الأندلس ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث ( ح ) ، وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي ، وهو آخر من حدث عنه ، ولم يحدثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي ، وهو آخر من حدث عنه ، عن أبي العباس بن دلهاث ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا - أعني عبد الغفار وابن مندار : أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال : أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه ، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ، قال : وحدثنا عون بن سلام الكوفي ، حدثنا محمد بن طلحة اليامي ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : حبس المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ) ، أو : ( حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا ) . وقرأ عبد الله : ( وعلى الصلاة الوسطى ) بإعادة الجار على سبيل التوكيد . وقرأت عائشة : " والصلاة " بالنصب ، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص ، ويحتمل أن يراعى موضع : على الصلاة ؛ لأنه نصب ، كما تقول : مررت بزيد وعمرا ، وروي عن قالون أنه قرأ : " الوصطى " بالصاد ، أبدلت السين صادا لمجاورة الطاء ، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله : ( الصراط ) .

( وقوموا لله قانتين ) ، أي : مطيعين ، قاله الشعبي ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وابن جبير ، والضحاك ، والحسن . أو خاشعين ، قاله مجاهد . أو مطيلين القيام ، قاله ابن عمر ، والربيع . أو داعين ، قاله ابن عباس . أو ساكتين ، قاله السدي . أو عابدين . أو مصلين . أو قارئين ، روي هذا عن ابن عمر . أو ذاكرين الله في القيام ، قاله الزمخشري . أو راكدين كافي الأيدي والأبصار ، قاله مجاهد ، وهو الذي عبر عنه قبل بالخشوع . والأظهر حمله على السكوت ؛ إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، حتى نزلت : ( وقوموا لله قانتين ) ؛ فأمروا بالسكوت . والمعنى : وقوموا في الصلاة . وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا . وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث ، فأجمعوا على أنه لو تكلم عامدا وهو يعلم أنه في الصلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته ، فسدت صلاته ، إلا ما روي عن الأوزاعي : أن الكلام لإحياء نفس ، أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لا يفسد الصلاة . أو ساهيا ، فقال مالك والشافعي : لا تفسد . وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه . وقال أبو حنيفة ، والثوري : تفسد كالعمد ، لإصلاح صلاة كان أو لغيره ، وهو قول النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان . واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة ، ونقل الأثرم عنه : إن تكلم لإصلاحها لم تفسد ، أو لغيره فسدت ، وهذا قول مالك . وفي قوله : ( وقوموا لله قانتين ) دليل على مطلوبية القيام ، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، كان منفردا أو إماما ، واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعدا لا يستطيع القيام ؛ فأجاز ذلك جمهور العلماء : جابر بن زيد ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو أيوب ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن إسماعيل ، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة : فيصلي وراءه [ ص: 243 ] جالسا على مذهب هؤلاء ، وأفتى به من الصحابة : جابر ، وأبو هريرة ، وأسيد بن حضير ، وقيس بن فهر . وروى هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أنس ، وعائشة ، وأبو هريرة ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو أمامة الباهلي . وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعدا ، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وداود ، وزفر ، وجماعة ب المدينة ، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك ، وهي رواية غريبة عنه ، والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالسا ، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلا ؛ فتصح صلاته وتفسد صلاتهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن . قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي : وأول من أبطل صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية