صفحة جزء
( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) ، قول النبي لهم " إن الله قد بعث " لا يكون إلا بوحي ؛ لأنهم سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتل في سبيل الله ، فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه ، فيحتمل أن يكون ذلك بسؤال من النبي الله أن يبعثه ، ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله ، بل لما علم حاجتهم إليه بعثه . وقال المفسرون : إنه سأل الله أن يبعث لهم ملكا ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس ، وقيل : الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا ، وقيل للنبي : انظر القرن فإذا دخل رجل فنش الدهن الذي هو فيه فهو ملك بني إسرائيل ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها ، وكان : طالوت سقاء على ماء ، قاله السدي ، أو دباغا على ما قاله وهب ، أو مكاريا ، وضاع حمار له ، أو حمر لأهله ؛ فاجتمع بالنبي ليسأله عن ما ضاع له ويدعو الله له ، فبينا هو عنده نش ذلك القرن ، وقاسه النبي بالعصا ، فكان طولها ، فقال له : قرب رأسك فقربه ودهنه بدهن القدس ، وقال : أمرني الله أن أملكك على بني إسرائيل . فقال طالوت : أنا ؟ قال : نعم . قال : أوما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ قال : بلى ، قال : أفما علمت أن بيتي أدنى بيوت بني إسرائيل ؟ قال : بلى . قال : فبآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، وكان كذلك . وانتصب : ملكا على الحال ، والظاهر أنه ملكه الله عليهم ، وقال مجاهد : معناه أميرا على الجيش . ( قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ) ، هذا كلام من تعنت وحاد عن أمر الله ، وهي عادة بني إسرائيل ، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله : ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) أن يسلموا الأمر لله ، ولا تنكره قلوبهم ، ولا يتعجبوا من ذلك ؛ ففي المقادير أسرار لا تدرك ، فقالوا : كيف يملك علينا من هو دوننا وليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوذا ، ومنه داود وسليمان ؟ وليس من بيت النبوة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون ؟ قال ابن السائب : وكان سبط طالوت قد عملوا ذنبا عظيما ، نكحوا النساء نهارا على ظهر الطريق ، فغضب الله عليهم ؛ فنزع النبوة والملك منهم ، وكانوا يسمون سبط الإثم . وفي قولهم : ( أنى يكون له الملك علينا ) إلى آخره ، ما يدل على أنه مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل ، واستحقار من كان غير موسع عليه ؛ فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه ، وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة فيه ؛ إذ يكون أعظم في النفوس ، وإلى غنى يستعبد به الرجال ، ويعينه على مقاصد الملك - لم يعتبروا السبب الأقوى ، وهو : قضاء الله وقدره ، ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ) ، واعتبروا السبب الأضعف ، وهو : النسب والغنى ، ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، ( لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى ) ، ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وقال الله تعالى : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) ، قال الشاعر :


وأعجب شيء إلى عاقل فتو عن المجد مستأخره [ ص: 258 ]     إذا سئلوا ما لهم من علا
أشاروا إلى أعظم ناخره



و " أنى " هنا بمعنى كيف ، وهو منصوب على الحال ، و " يكون " الظاهر أنها ناقصة ، و " له " في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف ، وهو العامل في " أنى " ، و " علينا " متعلق بـ " الملك " على معنى الاستعلاء ، تقول : فلان ملك على بني فلان ، وقيل : " علينا " حال من " الملك " . ويجوز أن تكون تامة و " له " متعلق بـ " يكون " ، أي : كيف يقع أو يحدث له الملك علينا ؟ " ونحن أحق " : جملة حالية اسمية عطف عليها جملة فعلية ، وهي : ( ولم يؤت سعة من المال ) ، والمعطوف على الحال حال ، والمعنى : أن من اجتمع فيه هذان الوصفان : وجود من هو أحق منه ، وفقره ؛ لا يصلح للملك . ويعلق " بالملك " ، و " منه " بـ " أحق " ، وتعلق " من المال " بـ " يؤت " ، وفتحت سين السعة لفتحها في المضارع ؛ إذ هو محمول عليه ، وقياسها الكسر ؛ لأنه كان أصله : يوسع ، كوثق يثق ، وإنما فتح عين المضارع لكون لامه حرف حلق ، فهذه فتحة أصلها الكسر ؛ ولذلك حذفت الواو ، لوقوعها في يسع بين ياء وكسرة ، لكن فتح لما ذكرناه ، ولو كان أصلها الفتح لم يجز حذف الواو ، ألا ترى ثبوتها في يوجل ؟ لأنها لم تقع بين كسرة وياء ، فالمصدر والأمر في الحذف محمولان على المضارع ، كما حملوا : عدة ووعد على يعد . ( قال إن الله اصطفاه عليكم ) ، أي : اختاره صفوة ؛ إذ هو أعلم تعالى بالمصالح ؛ فلا تعترضوا على الله . ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) ، قيل : في العلم بالحروب ، والظاهر علم الديانات والشرائع . وقيل : قد أوحي إليه ونبئ ، وأما البسطة في الجسم ؛ فقيل : أريد بذلك : معاني الخير ، والشجاعة ، وقهر الأعداء ، والظاهر أنه : الامتداد ، والسعة في الجسم . قال ابن عباس : كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل ، وأجمله وأتمه ، وقد تقدم قول المفسرين في طوله ، ونبه على استحقاق طالوت للملك باصطفاء الله له على بني إسرائيل ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) ، وبما أعطاه من السعة في العلم ، وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أنا أعلمكم بالله ومن بسطة الجسم ؛ فإن لذلك عظما في النفوس وهيبة وقوة ، وكثيرا ما تمدحت العرب بذلك ، قال الشاعر :


فجاءت به سبط العظام كأنما     عمامته بين الرجال لواء

وقال :


بطل كأن ثيابه في سرحة     يحذى نعال السبت ليس بتوأم

وقال :


تبين لي أن القماءة ذلة     وأن أعزاء الرجال طيالها

وقالوا في المدح : طويل النجاد رفيع العماد . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ماشى الطوال طالهم . قال ابن زيد : كانت هذه الزيادة بعد الملك ، وقال وهب ، والسدي : قبل الملك ؛ فالمعنى : وزاده على غيره من الناس بسطة ، بالسين ، أبو عمرو ، وابن كثير . وبالصاد ، نافع ، وابن كثير رواية النقاش ، وزرعان ، والشيموني وزاد : لئن بصطت ، وبباصط ، وكباصط ، ومبصوطتان ، ولا تبصطها كل البصط ، وأوصط ، وفما اصطاعوا ، ويصطون ، والقصطاس . وروى نحوه : أبو نشيط عن قالون .

( والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) ، ظاهره أنه من معمول قول النبي لهم ، لما علم بغيتهم في مسائلهم ومجادلتهم في الحجج التي تبديها ؛ أتم كلامه بالأمر القطعي ، وهو أن الله هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء . ولما قالوا : ( ونحن أحق بالملك منه ) ، فكان في قولهم ادعاء الأحقية في الملك ، حتى كأن الملك هو في ملكهم ؛ أضاف الملك إلى الله في قوله : " ملكا " ، فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد ؛ فلستم بأحق فيه ؛ لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء . وقيل : هاتان الجملتان ليستا داخلتين في قول النبي ، بل هي إخبار من الله تعالى لنبيه محمد - صلى [ ص: 259 ] الله عليه وسلم - فهي معترضة في هذه القصة ، جاءت للتشديد والتقوية لمن يؤتيه الله الملك ، أي : فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه فلا اعتراض عليه ( لا يسأل عما يفعل ) . وختم بهاتين الصفتين ؛ إذ تقدم دعواهم أنهم أهل الملك ، وأنهم الأغنياء ، وأن طالوت ليس من بيت الملك ، وأنه فقير ؛ فقال تعالى : إنه واسع ؛ يوسع فضله على الفقير ، عليم بمن هو أحق بالملك ؛ فيضعه فيه ويختاره له . وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة ؛ لإنكار الله عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة والملك ، وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب ؛ ودل أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس ، وأنها مقدمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم لعلمه وقدرته ، وإن كانوا أشرف منه نسبا . وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار بقصة الخارجين من ديارهم - وهم عالم لا يحصون - فرارا من الموت ، إما بالقتل ؛ إذ فرض عليهم القتال ، وإما بالوباء ؛ فأماتهم الله ثم أحياهم ليعلموا أنه لا مفر مما قدره الله تعالى ، وذلك لئلا نسلك ما سلكوه ؛ فنحجم عن القتال ، فأتت هذه الآية مثبتة لمن جاهد في سبيله . وذكر تعالى أنه ذو فضل على الناس ، وذلك بإحيائهم والإحسان إليهم ، ومع ذلك فأكثرهم لا يؤدي شكر الله . ثم أمر بالقتال في سبيل الله ، وبأن نعلم أنه سميع لأقوالنا ، عليم بنياتنا . ثم ذكر أن من أقرض الله فالله يضاعفه حيث يحتاج إليه . ثم ذكر أن بيده القبض والبسط ، وأن مرجع الكل إليه . ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني إسرائيل ؛ وذلك لنعتبر بها ونقتدي منها بما كان من أحوالهم حسنا ، ونجتنب ما كان قبيحا ، وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها ، وأنهم حين استولى عليهم العدو ، فملك بلادهم وأسر أبناءهم ، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب ؛ إذ هي محتاجة إلى من يصدر عن أمره ويجتمع عليه ؛ فسألوا نبيهم أن ينهض لهم ملكا برسم الجهاد في سبيل الله ، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه ، فأجابوه : بأنا قد وترنا ، وأخرجنا من ديارنا ، وأبنائنا ، وهذا أصعب شيء على النفوس ، وهو أن يخرج من مسكن ألفه ، ويفرق بينه وبين أبنائه ؛ ولهذا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر ) ، وكثيرا ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد ، ألا ترى إلى قول بلال :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل

وكان قتيبة بن سعيد المحدث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة ، وحمل الناس العلم عنه ، وكان ببغداد ، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيرا ببغلان ، قيل : وهي ضيعة من أصغر الضياع ؛ فتمنى أن لو كان مقيما بها ، ويترك رئاسة بغداد دار الخلافة ، وذلك نزوع إلى الوطن . وذكر تعالى أنه لما فرض القتال عليهم أعرضوا عن قبوله إلا قليلا فإنه أخذ أمر الله بالقبول . ثم عرض تعالى بالظالمين ، وهم الذين لم يقبلوا أمر الله بعد أن كانوا طلبوه ؛ فهو يجازيهم على ظلمهم . ثم أخبر تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن الله : إنه قد بعث طالوت ملكا عليهم ، ولم يكن عندهم من أنفسهم ولا أشرفهم منصبا ؛ إذ ليس من سبط النبوة ، ولا من سبط الملك ؛ فلم يأخذوا ما أخبرهم عن الله بالقبول ، وشرعوا يتعنتون على عادتهم مع أنبيائهم ، فاستبعدوا تمليكه عليهم ؛ لأن فيهم من هو أحق بالملك منه على زعمهم ؛ إذ لم يسبق له أن يكون من آبائه ملك فيعظم عند العامة ؛ ولأنه فقير ، وهاتان الخلتان هما يضعفان الملك ؛ إذ سابق الرئاسة والجاه والملاءة بالأموال مما يستتبع الرجال ويستعبد الأحرار ، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلا . فأخبرهم نبيهم أن الله تعالى قد اختاره عليكم ، وشرفه بخصلتين هما في ذاته : إحداهما : الخلق العظيم ، والأخرى : المعرفة التي هي الفضل الجسيم ؛ واستغنى بهذين الوصفين الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات ، وهما الفخر بالعظم الرميم ، والاستكثار بالمال الذي مرتعه وخيم . ثم أخبر أن الله تعالى [ ص: 260 ] يعطي ملكه من أراد ، وأنه الواسع الفضل ، العالم بمصالح العباد ؛ فلا اعتراض عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية