صفحة جزء
( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) قيل : في الكلام حذف ، التقدير : فاختلف أممهم واقتتلوا . ( ولو شاء الله ) ومفعول ( شاء ) محذوف تقديره : أن لا تقتتلوا ، وقيل : أن لا يأمر بالقتال ، قاله الزجاج ، وقال مجاهد : أن لا تختلفوا الاختلاف الذي هو سبب القتال ، وقيل : ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا ، وقال أبو علي بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف ، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان . وقال علي بن عيسى : هذه مشيئة القدرة ، مثل : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ولم يشأ ذلك ، وشاء تكليفهم فاختلفوا ، وقال الزمخشري : ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر ، وجواب ( لو ) ( ما اقتتل ) وهو فعل منفي بـ ( ما ) فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية ، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام ، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو ، و ( من بعدهم ) صلة للذين ، فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم ، والضمير عائد على الرسل ، وقيل : عائد على موسى وعيسى وأتباعهما ، وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك ، بل المراد : ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، فلف الكلام لفا لم يفهمه السامع وهذا كما تقول : اشتريت خيلا ثم بعتها ، وإن كنت قد اشتريتها فرسا فرسا وبعته ، وكذلك هذا ، إنما اختلف بعد كل نبي ، و ( من بعد ) قيل : بدل من ( بعدهم ) ، والظاهر أنه متعلق بقوله : ( ما اقتتل ) إذ كان في البينات - وهي الدلائل الواضحة - ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل ، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل .

( ولكن اختلفوا ) هذا الاستدراك واضح ؛ لأن ما قبلها ضد لما بعدها ؛ لأن المعنى : لو شاء الاتفاق لاتفقوا ، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا .

( فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم ، ومن كفر بإعراضه عن اتباع الرسل حسدا وبغيا واستئثارا بحطام الدنيا . ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) قيل : الجملة تكررت توكيدا للأولى ، قاله الزمخشري . وقيل : لا توكيد لاختلاف المشيئتين ، فالأولى : ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، والثانية : ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا ، وتعلق بهذه الآية مثبتو [ ص: 275 ] القدر ونافوه ، ولم يزل ذلك مختلفا فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافيا حيث قال :


استأثر الله بالوفاء وبالـ عدل وولى الملامة الرجلا



وكان لبيد مثبتا حيث قال :


من هداه سبل الخير اهتدى     ناعم البال ومن شاء أضل



( ولكن الله يفعل ما يريد ) هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة ، وإن إرادة غيره غير مؤثرة ، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدر وقضى من خير وشر ، وهو فعله تعالى . وقال الزمخشري : ولكن الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة ، وهذا على طريقة الاعتزالية . قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة التقسيم ، في قوله : ( منهم من كلم الله ) بلا واسطة ، ومنهم من كلمه بواسطة ، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى ، وفي قوله ( فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) وهذا التقسيم ملفوظ به . والاختصاص مشارا إليه ومنصوصا عليه ، والتكرار في لفظ البينات ، وفي ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) على أحد التأويلين . والحذف ، في قوله ( منهم من كلم الله ) أي : كفاحا ، وفي قوله ( يفعل ما يريد ) يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية