صفحة جزء
( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) جموع كثرة على وزن فعل ، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا ، نحو : أحمر وحمراء ، أو انفرد المانع في الخلقة ، نحو : عذل ورتق . فإن كان الوصف مشتركا لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء ، وذلك نحو : رجل آلى وامرأة عجزاء ، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه . والصمم : داء يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع ، وأصله من الصلابة ، قالوا : قناة صماء ، وقيل : أصله السد ، وصممت القارورة : سددتها . والبكم : آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام ، قاله أبو حاتم ، وقيل : الذي يولد أخرس ، وقيل : الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب ، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان . والعمى : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ، والفعل منها على فعل بكسر العين ، واسم الفاعل على أفعل ، وهو قياس الآفات والعاهات . والرجوع ، إن لم يتعد ، فهو بمعنى : العود ، وإن تعدى فبمعنى : الإعادة . وبعض النحويين يقول : إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر . قال الزمخشري : لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان ، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن ، والغائب بأنه مشاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي ، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين [ ص: 76 ] وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام الأنبياء والحكماء ، فقال الله - تعالى - : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) ، ومن سور الإنجيل سور الأمثال ، انتهى كلامه .

ومثلهم : مبتدأ ، والخبر في الجار والمجرور بعده ، والتقدير كائن كمثل ، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر . وقال ابن عطية : الخبر الكاف ، وهي على هذا اسم ، كما هي في قول الأعشى :


أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل



انتهى .

وهذا الذي اختاره وبدأ به غير مختار ، وهو مذهب أبي الحسن ، يجوز أن تكون الكاف اسما في فصيح الكلام ، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر ، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره ، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله : فصيروا مثل : ( كعصف مأكول ) . وحمله على ذلك ، والله أعلم ، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى ، صار المعنى عنده على الزيادة ، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل ، لا بمثل المثل ، والمثل هنا بمعنى القصة والشأن ، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد نارا ، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة . وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد نارا وجوه ذكروها ، الأول : أن مستوقد النار يدفع بها الأذى ، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه ، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر . الثاني : أنه يهتدي بها ، فإذا انطفأت ضل ، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام ، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمة كفره . الثالث : أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها ، كذلك المنافق ، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه . الرابع : أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه ، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة ، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار . الخامس : أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين بالذهاب ، قاله مجاهد . السادس : شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد ، والضلالة المشتراة بالظلمات . السابع : أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه ، روي معناه عن الحسن ، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين ، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل . وروي عن ابن جبير وعطاء ومحمد بن كعب ويمان بن رئاب ، أنها في اليهود ، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها ، الأول : أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة ، واليهود لما كانوا يبشرون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون ، شبه حالهم بحال المستوقد النار ، فلما بعث وكفروا به ، أذهب الله ذلك النور عنهم . الثاني : شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنار المستوقد ، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد . الثالث : شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد نارا ، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان ، وتقدم الكلام على الذي ، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع ، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع ، والذي نختاره أنه مفرد لفظا وإن كان في المعنى نعتا لما تحته أفراد ، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد نارا كأحد التأويلين في قوله :


وإن الذي حانت بفلج دماؤهم



ولا يحمل على المفرد لفظا ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم ، وجمعه في دمائهم . وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة ، فهو خطأ لإفراد الضمير في العلة ، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به . ألا ترى جمعه في قوله [ ص: 77 ] تعالى : ( وخضتم كالذي خاضوا ) على أحد التأويلين ، وجمعه في قول الشاعر :


يا رب عبس لا تبارك في أحد     في قائم منهم ولا فيمن قعد

إلا الذي قاموا بأطراف المسد

وأما قول الفارسي : إنها مثل من ، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف من ، فلفظ من مفرد مذكر أبدا وليس كذلك الذي ، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى : ( وخضتم كالذي خاضوا ) ، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين ، قال : أحدهما : أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة ، واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام ، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين خطأ ؛ لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب ، كما كان للذي ، ولما تخطى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها ، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت ، قال : والثاني : إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة ، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء ؟ انتهى . وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك ، بل هو مثله من حيث المعنى ، ألا ترى أنه لا يكون واقعا إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل ؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعا لمذكر عاقل ، ولكنه لما كان مبنيا التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب ، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعا والياء والنون نصبا وجرا ، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل ، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع ، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية