صفحة جزء
( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) . قيل : نزلت في عثمان ، وقيل : في علي ، وقيل : في عبد الرحمن بن عوف وعثمان ، جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها ، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وتصدق برومة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين ، وقيل : جاء عثمان بألف دينار فصبها في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما شبه تعالى صفة المنفق في سبيل الله بزارع الحبة التي أنجبت في تكثير حسناته ككثرة ما أخرجت الحبة ، وكان ذلك على العموم ، بين في هذه الآية أن ذلك إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى ؛ لأنهما مبطلان للصدقة ، كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، بل يراعى جهة الاستحقاق لا جزاء من المنفق عليه ولا شكرا له ، فيكون قصده خالصا لوجه الله تعالى ، فإذا التمس بإنفاقه الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء ، وإن التمس الجزاء كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا شكرا . والمن من الكبائر ثبت في ( صحيح مسلم ) وغيره أنه أحد : " الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " . وفي النسائي : " ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمان بما أعطى .

وفي قوله : ( ثم لا يتبعون ) بعد قوله : ( في سبيل الله ) دلالة على أن النفقة تمضي في سبيل الله ، ثم يتبعها ما يبطلها ، وهو المن والأذى ، وقد تبين ذلك في الآية بعدها ، فهي موقوفة ، أعني قبولها على شريطة ، وهو أن لا يتبعها منا ولا أذى ، وظاهر الآية يدل على أن المن والأذى يكونان من المنفق على المنفق عليه ، سواء كان ذلك الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز أو الإعانة فيه ، أم كان في غير الجهاد ، وسواء كان المنفق مجاهدا أم غير مجاهد ، وقال ابن زيد : هي في الذين لا يخرجون إلى الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود ، والآية قبلها في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم ، ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشرط على الأولين ، والأذى يشمل المن وغيره ، ونص على المن وقدم لكثرة وقوعه من المتصدق ، فمن المن أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك ، وشبهه ، أو يتحدث بما أعطى ، فيبلغ ذلك المعطى ، فيؤذيه ، ومن الأذى أن يسب المعطى ، أو يشتكي منه ، أو يقول : ما أشد إلحاحك ، وخلصنا الله منك ، وأنت أبدا تجيئني ، أو يكلفه الاعتراف بما أسدى إليه . وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه . وقال زيد بن أسلم : إن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه ، تريد وجه الله ، فلا تسلم عليه ، وقالت له امرأة : يا أبا أسامة ؟ دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم إنما يخرجون الفواكه ، فإن عندي أسهما وجيعة ، فقال لها : لا بارك [ ص: 307 ] الله في أسهمك وجيعتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم .

( لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته ، و ( الذين ينفقون ) مبتدأ والجملة من قوله : ( لهم أجرهم ) خبر ، ولم يضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ، فلم تدخل الفاء في الخبر ، وكان عدم التضمين هنا ؛ لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها ، والجملة التي قبلها أخرجت مخرج الشيء الثابت المفروغ منه ، وهو نسبة إنفاقهم بالحبة الموصوفة ، وهي كناية عن حصول الأجر الكثير ، فجاءت هذه الجملة ، كذلك أخرج المبتدأ والخبر فيهما مخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع ما قبله ، بخلاف ما إذا دخلت الفاء فإنها مشعرة بترتب الخبر على المبتدأ ، واستحقاقه به .

وقيل : ( الذين ينفقون ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الذين ينفقون ( ولهم أجرهم ) في موضع الحال ، وهذا ضعيف ، أعني : جعل ( لهم أجرهم ) في موضع الحال ، بل الأولى إذا أعرب ( الذين ) خبر مبتدأ محذوف أن يكون ( لهم أجرهم ) مستأنفا وكأنه جواب لمن قال : هل لهم أجر ؟ وعند من أجرهم ؟ فقيل : ( لهم أجرهم عند ربهم ) وعطف بـ ( ثم ) التي تقتضي المهلة ؛ لأن من أنفق في سبيل الله ظاهرا لا يحصل منه غالبا المن والأذى ، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى ، لا يمن ولا يؤذي على الفور ، فلذلك دخلت ( ثم ) ، مراعاة للغالب ، وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق ، والمقارنين له حكم المتأخرين .

وقال الزمخشري : ومعنى ( ثم ) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة‍‌ على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله : ( ثم استقاموا ) انتهى كلامه ، وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لـ ( ثم ) ولا أعلم له في ذلك سلفا ، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى ، و ( ما ) من ( ما أنفقوا ) موصول عائده محذوف ، أي : أنفقوه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : إنفاقهم ، وثم محذوف ، أي : منا على المنفق عليه ، ولا أذى له ، وبعد ما قاله بعضهم من أن ( ولا أذى ) من صفة المعطي ، وهو مستأنف ، وكأنه قال : الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق ، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) لا يراد به في الآخرة ، وأن المعنى : إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه ، وأن لا يعقبه المن ، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد ، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر .

التالي السابق


الخدمات العلمية