صفحة جزء
( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ) [ ص: 322 ] ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله ، أو سبيل الشيطان ، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته ، وأتى بالمميز في قوله : ( من نفقة ) ( ومن نذر ) وإن كان مفهوما من قوله : ( وما أنفقتم ) ومن قوله : ( أو نذرتم من نذر ) لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك ، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، وقيل : تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر ، والنذر على قسمين : محرم وهو كل نذر في غير طاعة الله ، ومعظم نذور الجاهلية كانت على ذلك ; ومباح مشروط وغير مشروط ، وكلاهما مفسر ، نحو : إن عوفيت من مرض كذا فعلي صدقة دينار ، ونحو : لله علي عتق رقبة ، وغير مفسر ، نحو : إن عوفيت فعلي صدقة أو نذر ، وأحكام النذر مذكورة في كتب الفقه ، قال مجاهد : معنى ( يعلمه ) يحصيه ، وقال الزجاج : يجازي عليه ، وقيل : يحفظه . وهذه الأقوال متقاربة .

وتضمنت هذه الآية وعدا ووعيدا بترتيب علم الله على ما أنفقوا أو نذروا ( ومن نفقة ) ( ومن نذر ) تقدم نظائرها في الإعراب فلا تعاد ، وفي قوله : ( من نذر ) دلالة على حذف موصول قبل قوله : ( نذرتم ) تقديره : أو ما نذرتم من نذر ؛ لأن ( من نذر ) تفسير وتوضيح لذلك المحذوف ، وحذف ذلك للعلم به ، ولدلالة ما في قوله : ( وما أنفقتم ) عليه ، كما حذف ذلك في قوله :


أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء



التقدير : ومن يمدحه ، فحذفه لدلالة : من ، المتقدمة عليه ، وعلى هذا الذي تقرر من حذف الموصول ، فجاء الضمير مفردا في قوله : ( فإن الله يعلمه ) لأن العطف بأو ، وإذا كان العطف بأو كان الضمير مفردا ؛ لأن المحكوم عليه هو أحدهما ، وتارة يراعى به الأول في الذكر ، نحو : زيد أو هند منطلق ، وتارة يراعى به الثاني ، نحو : زيد أو هند منطلقة ، وأما أن يأتي مطابقا لما قبله في التثنية أو الجمع فلا ، ولذلك تأول النحويون قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) بالتأويل المذكور في علم النحو ، وعلى المهيع الذي ذكرناه ، جاء قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) وقوله تعالى : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) كما جاء في هذه الآية : ( فإن الله يعلمه ) ولما عزبت معرفة هذه الأحكام عن جماعة ممن تكلم في تفسير هذه الآية ، جعلوا إفراد الضمير مما يتأول ، فحكي عن النحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ، ثم حذف ، قال : وهو مثل قوله : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ) وقوله ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ) وقول الشاعر :

[ ص: 323 ]

نحن بما عندنا وأنت بما     عندك راض والرأي مختلف



وقول الآخر :


رماني بأمر كنت منه ووالدي     بريئا ومن أجل الطوي رماني



التقدير : نحن بما عندنا راضون ، وكنت منه بريئا ، ووالدي بريئا ، انتهى . فأجرى أو مجرى الواو في ذلك . قال ابن عطية : ووحد الضمير في ( يعلمه ) وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص ، انتهى .

وقال القرطبي : وهذا حسن ، فإن الضمير يراد به جميع المذكور ، وإن كثر ، انتهى . وقد تقدم لنا ذكر حكم أو ، وهي مخالفة للواو في ذلك ، ولا يحتاج لتأويل ابن عطية ؛ لأنه جاء على الحكم المستقر في لسان العرب في : أو .

( وما للظالمين من أنصار ) ظاهره العموم ، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله ، وقال مقاتل : هم المشركون . وقال أبو سليمان الدمشقي : هم المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمبذرون في المعصية ، وقيل : المنفقو الحرام .

والأنصار : الأعوان جمع نصير ، كحبيب وأحباب ، وشريف وأشراف ، أو ناصر ، كشاهد وأشهاد ، وجاء جمعا باعتبار أن ما قبله جمع ، كما جاء : ( وما لهم من ناصرين ) والمفرد يناسب المفرد نحو : ( ما لك من الله من ولي ولا نصير ) لا يقال : انتفاء الجمع لا يدل على انتفاء المفرد ؛ لأن ذلك في معرض نفي النفع والإغناء ، وحصول الاستعانة ، فإذا لم يجد الجمع ولم يغن ، فأحرى أن لا يجدي ولا يغني الواحد .

ولما بين تعالى فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه ، وحذرنا من الجنوح إلى نزغات الشيطان ، وذكرنا بوعد الله الجامع لسعادة الآخرة والدنيا من المغفرة والفضل ، وبين أن هذا الأمر والفرق بين الوعدين لا يدركه إلا من تخصص بالحكمة التي يؤتيها الله من يشاء من عباده ، رجع إلى ذكر النفقة والحث عليها ، وأنها موضوعة عند من لا ينسى ولا يسهو ، وصار ذكر الحكمة مع كونه متعلقا بما تقدم كالاستطراد ، والتنويه بذكرها ، والحث على معرفتها .

( إن تبدوا الصدقات ) أي : إن تظهروا إعطاء الصدقات ، قال الكلبي : لما نزلت : ( وما أنفقتم من نفقة ) الآية ، قالوا : يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟ فنزلت : ( إن تبدوا الصدقات ) وقال يزيد بن أبي حبيب : نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى ، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر ، و ( الصدقات ) ظاهر العموم ، فيشمل المفروضة والمتطوع بها .

وقيل الألف واللام للعهد ، فتصرف إلى المفروضة ، فإن الزكاة نسخت كل الصدقات ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب ، وقيل : المراد هنا صدقات التطوع دون الفرض ، وعليه جمهور المفسرين ، وقاله سفيان الثوري .

وقد اختلفوا : هل الأفضل إظهار المفروضة أم إخفاؤها ؟ فذهب ابن عباس وآخرون إلى أن إظهارها أفضل من إخفائها ، وحكى الطبري الإجماع عليه ، واختاره القاضي أبو يعلى ، وقال أيضا ابن عباس : إخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها ، وروي عنه : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا .

قال القرطبي : ومثل هذا لا يقال بالرأي ، وإنما هو توقيف ، وقال قتادة : كلاهما إخفاؤه أفضل . وقال الزجاج : كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن ، فأما اليوم فالناس مسيئون الظن فإظهارها أفضل . وقال ابن العربي : ليس في تفضيل صدقة السر على العلانية ، ولا صدقة العلانية على صدقة السر حديث صحيح .

( فنعما هي ) الفاء جواب الشرط ، ونعم فعل لا يتصرف ، فاحتيج في الجواب إلى الفاء ، والفاعل بنعم مضمر مفسر بنكرة لا تكون مفردة في الوجود نحو : شمس وقمر ، ولا متوغلة في الإبهام نحو غير ، ولا أفعل [ ص: 324 ] التفضيل نحو أفضل منك ، وذلك نحو : نعم رجلا كزيد ، والمضمر مفرد ، وإن كان تمييزه مثنى أو مجموعا ، وقد أعربوا : ما ، هنا تمييزا لذلك المضمر الذي في نعم ، وقدروه بـ ( شيئا ) فـ ( ما ) نكرة تامة ليست موصوفة ولا موصولة ، وقد تقدم الكلام على : ما ، اللاحقة لهذين الفعلين ، أعنى : نعم وبئس ، عند قوله تعالى : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ) وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وهي : ضمير عائد على الصدقات ، وهو على حذف مضاف أي : فنعما إبداؤها ، ويجوز أن لا يكون على حذف مضاف ، بل يعود على الصدقات بقيد وصف الإبداء ، والتقدير في ( فنعما هي ) فنعما الصدقات المبداة وهي مبتدأ على أحسن الوجوه ، وجملة المدح خبر عنه ، والرابط هو العموم الذي في المضمر المستكن في ( نعم )

وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص : ( فنعما ) بكسر النون والعين هنا وفي النساء ، ووجه هذه القراءة أنه على لغة من يحرك العين ، فيقول : نعم ، ويتبع حركة النون بحركة العين ، وتحريك العين هو الأصل ، وهي لغة هذيل ، ولا يكون ذلك على لغة من أسكن العين ؛ لأنه يصير مثل : " جسم مالك " ، وهو لا يجوز إدغامه على ما ذكروا .

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ( فنعما ) فيهما بفتح النون وكسر العين ، وهو الأصل ؛ لأن وزنه على فعل ، وقال قوم : يحتمل قراءة كسر العين أن يكون على لغة من أسكن ، فلما دخلت ما وأدغمت حركت العين لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وقد روي عنهم الإسكان ، والأول أقيس وأشهر ، ووجه الإخفاء طلب الخفة ، وأما الإسكان فاختاره أبو عبيد ، وقال : الإسكان ، فيما يروى ، لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا اللفظ ، قال لعمرو ابن العاص : " نعما المال الصالح للرجل الصالح " . وأنكر الإسكان أبو العباس ، وأبو إسحاق ، وأبو علي ؛ لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حده .

أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه ، وقال أبو إسحاق : لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث ، وقال أبو علي : لعل أبا عمرو أخفى ، فظنه السامع إسكانا وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر ، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع ، وفي بعض تاءات البزي ، وفي ( اسطاعوا ) وفي ( يخصمون ) انتهى ما لخص من كلامهم .

وإنكار هؤلاء فيه نظر ؛ لأن أئمة القراءة لم يقرءوا إلا بنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا ، تطرق إليهم فيما سواه ، والذي نختاره ونقوله : إن نقل القراءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه .

( وإن تخفوها ) الضمير المنصوب في ( تخفوها ) عائد على الصدقات ، لفظا ومعنى ، بأي تفسير فسرت الصدقات ، وقيل : الصدقات المبداة هي الفريضة ، والمخفاة هي التطوع ، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظا لا معنى ، فيصير نظير : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كذلك ( وإن تخفوها ) تقديره : وإن تخفوا الصدقات غير الأولى ، وهي صدقة التطوع ، وهذا خلاف الظاهر ، والأكثر في لسان العرب ، وإنما احتجنا في : عندي درهم ونصفه ، إلى أن نقول : إن الضمير عائد على الدرهم لفظا لا معنى لاضطرار المعنى إلى ذلك ؛ لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهما ونصف هذا الدرهم الذي عنده ، وكذلك قول الشاعر :


كأن ثياب راكبه بريح     خريق وهي ساكنة الهبوب



يريد : ريحا أخرى ساكنة الهبوب .

( وتؤتوها الفقراء ) فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء . ( فهو خير لكم ) الفاء جواب الشرط ، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله : ( وإن تخفوها ) التقدير : فالإخفاء خير لكم ، ويحتمل أن يكون ( خير ) هنا أريد به خير من الخيور ، و ( لكم ) في موضع الصفة ، فيتعلق بمحذوف ، والظاهر أنه أفعل التفضيل ، والمفضل عليه محذوف لدلالة المعنى عليه [ ص: 325 ] وهو الإبداء ، والتقدير : فهو خير لكم من إبدائها ، وظاهر الآية أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل ، سواء كانت فرضا أو نقلا ، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدق فيها عن الرياء والمن والأذى ، ولو لم يعلم الفقير بنفسه ، وأخفى عنه الصدقة أن يعرف ، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك .

قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا اصطنع إليك فانشره . وقال العباس بن عبد المطلب : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيله ، وتصغيره في نفسك ، وستره ، فإذا عجلته هنيته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا سترته أتممته . وقال سهل بن هارون :


يخفي صنائعه والله يظهرها     إن الجميل إذا أخفيته ظهرا



وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي ، وفي قوله : ( وتؤتوها الفقراء ) طباق معنوي ؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الصدقات الأغنياء وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير ، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدقة بنفسه .

( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) قرأ بالواو الجمهور في ( ويكفر ) وبإسقاطها وبالياء والتاء والنون ، وبكسر الفاء وفتحها ، وبرفع الراء وجزمها ونصبها ، فإسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش ، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء ، ووجهه أنه بدل على الموضع من قوله : ( فهو خير لكم ) لأنه في جزم ، وكأن المعنى : يكن لكم الإخفاء خيرا من الإبداء ، أو على إضمار حرف العطف ، أي : ويكفر .

وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء . وقرأ الحسن بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش بالياء ونصب الراء . وقرأ ابن عباس بالتاء وجزم الراء ، وكذلك قرأ عكرمة إلا أنه فتح الفاء وبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله . وقرأ ابن هرمز ، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة ، وشهر بن حوشب : بالتاء ونصب الراء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر بالنون ورفع الراء . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي بالنون والجزم ، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء .

فالأظهر أن الفعل مسند إلى الله تعالى ، كقراءة من قرأ : ونكفر ، بالنون فإنه ضمير لله تعالى بلا شك ، وقيل : يعود على الصرف ، أي : صرف الصدقات ، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي : ويكفر إخفاء الصدقات ، ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز ؛ لأنه سبب التكفير ، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات ، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : ونحن نكفر ، أي : وهو يكفر ، أي : الله . أو الإخفاء أي : وهي تكفر أي : الصدقة .

ويحتمل أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام ، ويحتمل أن يكون معطوفا على محل ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعا ، كقوله : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء ؛ إذ هي في موضع جزم ، كقوله : ( من يضلل الله فلا هادي له ) .

ونذرهم ، في قراءة من جزم ، ونذرهم ، ومن نصب الراء فبإضمار ( أن ) ، وهو عطف على مصدر متوهم ، ونظيره قراءة من قرأ ( يحاسبكم به الله فيغفر ) بنصب الراء ، إلا أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله : فهو خير لكم ، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله : ( يحاسبكم ) فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران ، وقال الزمخشري : ومعناه وإن تخفوها يكن خيرا لكم ، وأن نكفر عنكم ، انتهى .

وظاهر كلامه هذا أن تقديره ; وأن نكفر ، يكون مقدرا بمصدر ، ويكون معطوفا على ( خيرا ) خبر يكن التي قدرها كأنه قال : يكن الإخفاء خيرا لكم وتكفيرا ، فيكون ( أن يكفر ) في موضع نصب .

والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع ، تقديره من المعنى ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا ، فالتقدير : ما يكون منك إتيان [ ص: 326 ] فحديث ، وكذلك إن تجئ وتحسن إلي أحسن إليك ، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك ، وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط ، كالتقدير الذي قدرناه في ( يحاسبكم به الله ) في قراءة من نصب ( فيغفر ) فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير .

وقال المهدوي : في نصب الراء : هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام ، وقال ابن عطية : الجزم في الراء أفصح هذه القراءات ؛ لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء ، وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء ، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى ، انتهى .

ونقول : إن الرفع أبلغ وأعم ؛ لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني ، والرفع بدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات ، أبديت أو أخفيت ؛ لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله ، ويختص التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصصه به ، ولا يمكن أن يقال : إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته ، فقد صار التكفير شاملا للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها ، وإن كان الإخفاء خيرا من الإبداء .

ومن ، في قوله ( من سيئاتكم ) للتبعيض ؛ لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات . وحكى الطبري عن فرقة قالت : ( من ) زائدة في هذا الموضع . قال ابن عطية : وذلك منهم خطأ ، وقول من جعلها سببية وقدر : من أجل ذنوبكم ضعيف .

( والله بما تعملون خبير ) ختم الله بهذه الصفة ؛ لأنها تدل على العلم بما لطف من الأشياء وخفي ، فناسب الإخفاء ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية