صفحة جزء
( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) قال ابن عباس ، ومقاتل : هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، وكانوا نحوا من أربعمائة ، وقال مجاهد : هم فقراء المهاجرين من قريش ، ثم يتناول من كان بصفة الفقر ، وقال سعيد بن جبير : هم قوم أصابتهم جراحات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصاروا زمنى ، واختار هذا الكسائي ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس من العدو لقال : حصروا ، وقد تقدم الكلام على الإحصار والحصر في قوله : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) وثبت من اللغة هناك أنه يقال في كل منهما أحصر وحصر ، وحكاه ابن سيده .

وقال السدي : أحصروا من خوف الكفار ، إذ أحاطوا بهم ، وقال قتادة : حبسوا أنفسهم للغزو ، ومنعهم الفقر من الغزو ، وقال محمد بن الفضل : منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلا إلى الله ، وقال الزمخشري : أحصرهم الجهاد ، لا يستطيعون لاشتغالهم به ضربا في الأرض للكسب ، انتهى .

و ( للفقراء ) في موضع الخبر لمبتدأ محذوف ، وكأنه جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها ؟ فقيل : للفقراء ، أي : هي للفقراء ، فبين مصرف النفقة ، وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف ، تقديره : أعجبوا للفقراء ، أو اعمدوا للفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، وأبعد القفال في تقدير : إن تبدوا الصدقات للفقراء ، وكذلك من علقه بقوله : ( وما تنفقوا من خير ) وكذلك من جعل ( للفقراء ) بدلا من قوله : ( فلأنفسكم ) لكثرة الفواصل المانعة من ذلك .

( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) أي تصرفا فيها ، إما لزمنهم وإما لخوفهم من العدو لقلتهم ، فقلتهم تمنعهم من الاكتساب بالجهاد ، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنعهم من التصرف في التجارة ، فبقوا فقراء ، وهذه الجملة المنفية في موضع الحال ، أي : أحصروا عاجزين عن التصرف ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب .

( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين حيث وقع ، وهو القياس ؛ لأن ماضيه على فعل بكسر العين ، وقرأ باقي السبعة بكسرها ، وهو مسموع في ألفاظ منها : عمد يعمد ويعمد ، وقد ذكرها النحويون ، والفتح في السين لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، والمعنى : أنهم لفرط انقباضهم ، وترك المسألة ، واعتماد التوكل على الله تعالى ، يحسبهم من جهل أحوالهم أغنياء ، و ( من ) سببية ، أي : الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم ؛ لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ولا يسأل ، ويتعلق ( يحسبهم ) وجر المفعول له هناك بحرف السبب ، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل ؛ لأن فاعل يحسب هو الجاهل ، وفاعل التعفف هو الفقراء ، وهذا الشرط هو على الأصح ، ولو لم يكن هذا الشرط منخرما لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له ؛ لأنه معرف بالألف واللام ، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب ، وإن كان يجوز نصبه ، لكنه قليل كما أنشدوا .


لا أقعد الجبن عن الهيجاء



أي : للجبن ، وإنما عرف المفعول له هنا ؛ لأنه سبق منهم التعفف مرارا ، فصار معهودا منهم ، وقيل : ( من ) لابتداء الغاية ، أي : من تعففهم ابتدأت محسبته ؛ لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء مال ، فمحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، وكونها للسبب أظهر ، ولا يجوز أن تتعلق : ( من ) بأغنياء ؛ لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أن المعنى : حالهم يخفى على الجاهل بهم ، فيظن أنهم أغنياء ، وعلى تعليق ( من ) بأغنياء يصير المعنى : أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغني بالتعفف فقير من المال ، وأجاز ابن عطية أن تكون ( من ) لبيان الجنس ، قال : يكون التعفف داخلا في [ ص: 329 ] المحسبة ، أي : أنهم لا يظهر لهم سؤال ، بل هو قليل ، وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، فمن ، لبيان الجنس على هذا التأويل ، انتهى . وليس ما قاله من أن ( من ) هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس ؛ لأن لها اعتبارا عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدر بموصول ، وما دخلت عليه يحصل خبر مبتدأ محذوف ، نحو : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) التقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : ( يحسبهم الجاهل أغنياء ) الذي هو التعفف ، لم يصح هذا التقدير ، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف ، لا غنى بالمال ، فتسمى ( من ) الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أن ( من ) سببية ، لكنها تتعلق ( بأغنياء ) لا بـ ( يحسبهم ) ويحتمل أن يكون ( يحسبهم ) جملة حالية ، ويحتمل أن يكون مستأنفة .

( تعرفهم بسيماهم ) الخطاب يحتمل أن يكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : أنك تعرف أعيانهم بالسيما التي تدل عليهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : تعرف فقرهم بالسيما التي تدل على الفقر ، من : رثاثة الأطمار ، وشحوب الألوان لأجل الفقر . وقال مجاهد : السيما الخشوع والتواضع ، وقال السدي : الفاقة ، والجوع في وجوههم ، وقلة النعمة ، وقال ابن زيد : رثاثة أثوابهم ، وصفرة وجوههم ، وقيل : أثر السجود ، واستحسنه ابن عطية قال : لأنهم كانوا متفرغين للعبادة ، فكان الأغلب عليهم الصلاة .

وقال القرطبي : هذا مشترك بين الصحابة كلهم لقوله تعالى في حقهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) إلا إن كان يكون أثر السجود في هؤلاء أكثر ، وأما من فسر السيما بالخشوع ، فالخشوع محله القلب ، ويشترك فيه الغني والفقير ، والذي يفرق بين الغني والفقير ظاهرا إنما هو : رثاثة الحال ، وشحوب الألوان . وللصوفية في تفسير السيما مقالات ، قال المرتعش : عزتهم على الفقر ، وقال الثوري : فرحهم بالفقر ، وقال أبو عثمان : إيثار ما عندهم مع الحاجة إليه ، وقيل : تيههم على الغني ، وقيل : طيب القلب وبشاشة الوجه .

والباء متعلقة : بـ ( تعرفهم ) ، وهي للسبب ، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها ، من الحالية ، ومن الاستئناف . وفي هذه الآية طباق في موضعين : أحدهما : في قوله : ( أحصروا ) و ( ضربا في الأرض ) والثاني : في قوله : ( للفقراء ) و ( أغنياء ) .

( لا يسألون الناس إلحافا ) إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد ، فالأكثر في لسان العرب انصراف النفي لذلك القيد ، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ، ونفي الإلحاح أي : وإن وقع منهم سؤال ، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح ، ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد ، فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الإلحاح ، فلا يكون النفي على هذا منصبا على القيد فقط ، قال ابن عباس : لا يسألون إلحافا ولا غير إلحاف ، ونظير هذا : ما تأتينا فتحدثنا ، فعلى الوجه الأول : ما تأتينا محدثا ، إنما تأتي ولا تحدث ، وعلى الوجه الثاني : ما يكون منك إتيان فلا يكون [ ص: 330 ] حديث ، وكذلك هذا لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح ، ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره ؛ لأنه كان يصير المعنى الأول وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول ؛ لأنه نفى الأول على سبيل العموم ، فتنفى مترتباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث انتفت جميع مترتبات الإتيان من : المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد ، ولكنه نبه بذكر مترتب واحد لغرض ما عن سائر المترتبات ، وتشبيه الزجاج هذا المعنى في الآية ، بقول الشاعر :


على لاحب لا يهتدي بمناره



إنما هو مطلق انتفاء الشيئين ، أي : لا سؤال ولا إلحاف ، وكذلك : هذا لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصية النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصح : لا إلحاف فلا سؤال ؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب : لا يلحفون الناس سؤالا ؛ لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص ، فتلخص من هذا كله أن نفي الشيئين تارة يدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه ، ونبه على بعضها بالذكر لغرض ما ، وتراه يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فينتفي لنفيه عوارضه ، وقال ابن عطية : تشبيهه - يعني الزجاج - الآية ببيت امرئ القيس غير صحيح ، ثم بين أن انتفاء صحة التشبيه من جهة أنه ليس مثله في خصوصية النفي ؛ لأن انتفاء المنار في البيت يدل على انتفاء الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال ، وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وقد بينا أن تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، وقررنا ذلك .

وقيل : معنى ( إلحافا ) أنه السؤال الذي يستخرج به المال لكثرة تلطفه ، أي : لا يسألون الناس بالرفق والتلطف ، وإذا لم يوجد هذا ، فلأن لا يوجد بطريق العنف أولى ، وقيل : معنى إلحافا أنهم يلحفون على أنفسهم في ترك السؤال ، أي : لا يسألون لإلحاحهم على أنفسهم في تركهم السؤال ، ومنعهم ذلك بالتكليف الشديد ، وقيل : من سأل ، فلا بد أن يلح ، فنفي الإلحاح عنهم مطلقا موجب لنفي السؤال مطلقا ، وقيل : هو كناية عن عدم إظهار آثار الفقر ، والمعنى : أنهم لا يضمون إلى السكون من رثاثة الحال والانكسار ، وما يقوم مقام السؤال الملح ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالا ، وأن تكون مستأنفة ، ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد ، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال لذي حال ، وهي مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو .

وجوزوا في إعراب ( إلحافا ) أن يكون مفعولا من أجله ، وأن يكون مصدرا لفعل محذوف دل عليه ( يسألون ) فكأنه قال : لا يلحفون ، وأن يكون مصدرا في موضع الحال تقديره : لا يسألون ملحفين .

( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) تقدم : ( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ) ( وما تنفقوا من خير يوف إليكم ) وليس على سبيل التكرار ، والتأكيد ، بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر ، فالأول : ذكر أن الخير الذي يعمله مع غيره إنما هو لنفسه ، وأنه عائد إليه جزاؤه ، والثاني : ذكر أن ذلك الجزاء الناشيء عن الخير يوفاه كاملا من غير نقص ولا بخس ، والثالث : ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير ، ومقداره ، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب ، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو : العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية