صفحة جزء
( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) مفهوم الشرط يقتضي امتناع الاستيثاق بالرهن ، وأخذه في الحضر ، وعند وجدان الكاتب ؛ لأنه تعالى علق جواز ذلك على وجود [ ص: 355 ] السفر وفقدان الكاتب ، وقد ذهب مجاهد ، والضحاك : إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، ونقل عنهما أنهما لا يجوزان الارتهان إلا في حال السفر ، وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر ، ومع وجود الكاتب ، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار ؛ لأنه مظنة فقدان الكاتب ، وإعواز الإشهاد ، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة ، ونبه بالسفر على كل عذر ، وقد يتعذر الكاتب في الحضر ، كأوقات الاشتغال والليل . وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر ، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه .

وقرأ الجمهور ( كاتبا ) على الإفراد . وقرأ أبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ( كتبا ) على أنه مصدر ، أو جمع كاتب ، كصاحب وصحاب ، ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة ، ونفي الكتابة يقتضي أيضا نفي الكتب .

وقرأ ابن عباس والضحاك ( كتابا ) على الجمع اعتبارا بأن كل نازلة لها كاتب ، وروي عن أبي العالية ( كتبا ) جمع كتاب ، وجمع اعتبارا بالنوازل أيضا .

وقرأ الجمهور ( فرهان ) جمع رهن نحو : كعب وكعاب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ( فرهن ) بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تسكين الهاء ، وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما ، فقيل : هو جمع رهان ، ورهان جمع رهن ، قاله الكسائي ، والفراء : وجمع الجمع لا يطرد عند سيبويه ، وقيل : هو جمع رهن ، كسقف ، ومن قرأ بسكون الهاء فهو تخفيف من رهن ، وهي لغة في هذا الباب ، نحو : كتب في كتب ، واختاره أبو عمرو بن العلاء وغيره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف الرهان إلا في الخيل لا غير ، وقال يونس : الرهن والرهان عربيان ، والرهن في الرهن أكثر ، والرهان في الخيل أكثر ، انتهى . وجمع فعل على فعل قليل ، ومما جاء فيه رهن قول الأعشى :


آليت لا يعطيه من أبنائنا رهنا فيفسدهم كرهن أفسدا



وقال بكسر رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء ، وقياسه : أفعل ، فكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل ، انتهى ، والظاهر من قوله : ( مقبوضة ) اشتراط القبض ، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وقبض وكيله ، وأما قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال الجمهور به . وقال عطاء ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى : ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ، ولم يقع القبض ، فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلا بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلا بالقبض .

واختلفوا في استمراره ، فقال مالك : إذا رده بعارية أو غيرها بطل ، وقال أبو حنيفة : إن رده بعارية أو وديعة لم يبطل ، وقال الشافعي : يبطل برجوعه إلى يد الراهن مطلقا .

والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتا متقومة يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية ، فقال الجمهور : لا يجوز رهن ما في الذمة ، وقالت المالكية : يجوز ، وقال الجمهور : لا يصح رهن الغرر ، مثل : العبد الآبق ، والبعير الشارد ، والأجنة في بطون أمهاتها ، والسمك في الماء ، والثمرة قبل بدو صلاحها ، وقال مالك : لا بأس بذلك .

واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك ، والشافعي : يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم . وقال أبو حنيفة : لا يصح مطلقا . وقال الحسن بن صالح : يجوز فيما لا يقسم ، ولا يجوز فيما يقسم .

ومعنى ( على سفر ) أي : مسافرين ، وقد تقدم الكلام على مثله في آية الصيام ، ويحتمل قوله : ( ولم تجدوا ) أن يكون معطوفا على فعل الشرط ، فتكون الجملة في موضع جزم ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ، فتكون الجملة في موضع نصب ، ويحتمل أن يكون معطوفا على خبر كان ، فتكون الجملة في موضع نصب ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر ، وارتفاع ( فرهان ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : [ ص: 356 ] فالوثيقة رهان مقبوضة .

( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) أي : إن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن ، فليؤد الغريم أمانته ، أي : ما ائتمنه عليه رب المال ، وقرأ أبي ( فإن أومن ) رباعيا مبنيا للمفعول ، أي : آمنه الناس ، هكذا نقل هذه القراءة عن أبي الزمخشري ، وقال السجاوندي . وقرأ أبي : فإن ائتمن ، افتعل من الأمن ، أي : وثق بلا وثيقة صك ، ولا رهن . والضمير في ( أمانته ) يحتمل أن يعود إلى رب الدين ، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن ، والأمانة : هو مصدر أطلق على الشيء الذي في الذمة ، ويحتمل أن يراد به نفس المصدر ، ويكون على حذف مضاف ، أي : فليؤد دين أمانته ، واللام في ( فليؤد ) للأمر ، وهو للوجوب ، وأجمعوا على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به ، وجبره الغرماء عليه ، ويجوز إبدال همزة ( فليؤد ) واوا نحو : يوجل ويوخر ويواخذ ، لضمة ما قبلها .

وروى أبو بكر عن عاصم ( الذي اؤتمن ) برفع الألف ، ويشير بالضمة إلى الهمزة ، قال ابن مجاهد : وهذه الترجمة غلط . وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر .

وقرأ ابن محيصن ، وورش بإبدال الهمزة ياء ، كما أبدلت في بئر وذئب ، وأصل هذا الفعل أؤتمن ، بهمزتين : الأولى همزة الوصل ، وهي مضمومة . والثانية : فاء الكلمة ، وهي ساكنة ، فتبدل هذه واوا لضمة ما قبلها ، ولاستثقال اجتماع الهمزتين ، فإذا اتصلت الكلمة بما قبلها رجعت الواو إلى أصلها من الهمزة ، لزوال ما أوجب إبدالها ، وهي همزة الوصل ، فإذا كان قبلها كسرة جاز إبدالها ياء لذلك .

وقرأ عاصم في شاذه ( اللذتمن ) بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسا على اتسر ، في الافتعال من اليسر ، قال الزمخشري : وليس بصحيح ؛ لأن التاء المنقلبة عن الهمزة في حكم الهمزة ، واتزر عامي ، وكذلك ريا في رؤيا ، انتهى كلامه .

وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح ، وأن اتزر عامي يعني : أنه من إحداث العامة ، لا أصل له في اللغة ، قد ذكره غيره ، أن بعضهم أبدل وأدغم ، فقال : اتمن واتزر ، وذكر أن ذلك لغة رديئة ، وأما قوله : وكذلك ريا في رؤيا ، فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله : واترز عامي ، فيكون إدغام ريا عاميا ، وإما أن يعود إلى قوله : فليس بصحيح ، أي : وكذلك إدغام ريا ، ليس بصحيح . وقد حكى الإدغام في ريا الكسائي .

( وليتق الله ربه ) أي : عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال ، وجمع بين قوله : ( الله ربه ) تأكيدا لأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله : ( وليملل الذي عليه الحق ) فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق ، وحين أداء ما لزمه من الدين ، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء .

( ولا تكتموا الشهادة ) هذا نهي تحريم ، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها ؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق ، وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد ، ويخبر حيث ما استخبر ، ولا تقل : أخبر بها عن الأمير ، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي .

وقرأ السلمي ( ولا يكتموا ) بالياء على [ ص: 357 ] الغيبة . ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها ، والكتم من معاصي القلب ؛ لأن الشهادة علم قام بالقلب ، فلذلك علق الإثم به ، وهو من التعبير بالبعض عن الكل ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد ، ألا ترى أنك تقول : أبصرته عيني ؟ وسمعته أذني ؟ ووعاه قلبي ؟ فأسند الإثم إلى القلب ؛ إذ هو متعلق الإثم ، ومكان اقترافه ، وعنه يترجم اللسان ، ولئلا يظن أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ، وقراءة الجمهور ( آثم ) اسم فاعل من : أثم قلبه ، و ( قلبه ) مرفوع به على الفاعلية ، و ( آثم ) خبر : إن ، وجوز الزمخشري أن يكون ( آثم ) خبرا مقدما ، و ( قلبه ) مبتدأ ، والجملة في موضع خبر إن ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون .

وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون - يعني : آثم - ابتداء و ( قلبه ) فاعل يسد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، انتهى . وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ؛ لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام ، نحو : أقائم الزيدان ؟ وأقائم الزيدون ؟ وما قائم الزيدان ؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن ؛ إذ يجيز : قائم الزيدان ؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام ، قال ابن عطية : ويجوز أن يكون ( قلبه ) بدلا على بدل بعض من كل ، يعني : أن يكون بدلا من الضمير المرفوع المستكن في ( آثم ) والإعراب الأول هو الوجه .

وقرأ قوم ( قلبه ) بالنصب ، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة ، وقال : قال مكي : هو على التفسير ، يعني التمييز ، ثم ضعف من أجل أنه معرفة ، والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة ، وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به ، نحو قولهم : مررت برجل حسن وجهه ومثله ما أنشد الكسائي - رحمه الله تعالى :


أنعتها إني من نعاتها     مدارة الأخفاف مجمراتها
غلب الذفار وعفر نياتها     كوم الذرى وادقة سراتها



وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز ، وعلى مذهب المبرد ممنوع ، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام ، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل ، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر ؛ لأن ذلك جائز ، وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف ، نحو : زيد منطلق العاقل ، نص عليه سيبويه ، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد ، فأحرى في البدل ؛ لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه .

ونقل الزمخشري وغيره : أن ابن أبي عبلة قرأ ( أثم قلبه ) بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء ، جعله فعلا ماضيا ، و ( قلبه ) بفتح الباء نصبا على المفعول بـ ( أثم ) أي : : جعله آثما .

( والله بما تعملون عليم ) بما تعملون عام في جميع الأعمال ، فيدخل فيها كتمان الشهادة [ ص: 358 ] وأداؤها على وجهها ، وفي الجملة توعد شديد لكاتم الشهادة ؛ لأن علمه بها يترتب عليه المجازاة ، وإن كان لفظ العلم يعم الوعد والوعيد ، وقرأ السلمي ( بما يعملون ) بالياء جريا على قراءته ( ولا يكتموا ) بالياء على الغيبة .

وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة التجنيس المغاير في قوله : ( إذا تداينتم بدين ) وفي قوله : ( وليكتب بينكم كاتب ) وفي قوله : ( ولا يأب كاتب أن يكتب ) وفي قوله : ( ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) وفي قوله : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وفي قوله : ( اؤتمن أمانته ) ، والتجنيس المماثل في قوله : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها ) والتأكيد في قوله : ( إذا تداينتم بدين ) وفي قوله : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) إذ يفهم من قوله : ( تداينتم ) قوله : ( بدين ) ومن قوله : ( فليكتب ) قوله : ( كاتب ) ، والطباق في قوله : ( أن تضل إحداهما فتذكر ) لأن الضلال هنا بمعنى النسيان ، وفي قوله : ( صغيرا أو كبيرا ) والتشبيه في قوله : ( أن يكتب كما علمه الله ) .

والاختصاص في قوله : ( كاتب بالعدل ) وفي قوله : ( فليملل وليه بالعدل ) وفي قوله : ( أقسط عند الله وأقوم للشهادة ) وفي قوله : ( تجارة حاضرة تديرونها بينكم ) .

والتكرار في قوله : ( فاكتبوه ، وليكتب ، و أن يكتب كما علمه الله فليكتب ، ولا يأب كاتب ) ، وفي قوله : ( وليملل الذي عليه الحق ، فإن كان الذي عليه الحق ) كرر الحق للدعاء إلى اتباعه ، وأتى بلفظة على ؛ للإعلام أن لصاحب الحق مقالا واستعلاء ، وفي قوله : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ، وفي قوله : ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله ) .

والحذف في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) حذف متعلق الإيمان ، وفي قوله : ( مسمى ) أي : بينكم فليكتب الكاتب ، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط ، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين ، وليتق الله ربه في إملائه سفيها في الرأي أو ضعيفا في البينة ، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب ، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين ، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا ، أي : دعائهم صاحب الحق للتحمل ، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم ، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة ، تديرونها بينكم ، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها ، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين ، أو رجلا وامرأتين ، ولا يضار كاتب ولا شهيد أي : صاحب الحق ، أو لا يضار صاحب الحق كاتبا ولا شهيدا ، ثم حذف وبني للمفعول ، وأن تفعلوا الضرر ، واتقوا عذاب الله ، ويعلمكم الله الصواب ، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتبا يتوثق بكتابته ، فالوثيقة رهن ، أمن بعضكم بعضا ، فأعطاه مالا بلا إشهاد ولا رهن ، أمانته من غير حيف ولا مطل ، وليتق عذاب الله ، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها .

وتلوين الخطاب ، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة ، في قوله : ( فاكتبوه وليكتب ) ومن الغيبة إلى الحضور في قوله : ( ولا يأب كاتب ، وأشهدوا ) ، ثم انتقل إلى الغيبة بقوله : ( ولا يضار ) ، ثم إلى الحضور بقوله : ( ولا تكتموا الشهادة ) ، ثم إلى الغيبة بقوله : ( ومن يكتمها ) ، ثم إلى الحضور بقوله : ( بما تعملون ) .

والعدول من فاعل إلى فعيل ، في قوله : ( شهيدين ) ، ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .

والتقديم والتأخير في قوله : ( فليكتب ) ، ( وليملل ) ، أو الإملال ، بتقديم الكتابة قبل ، ومن ذلك : ( ممن ترضون من الشهداء ) ، التقدير : واستشهدوا ممن ترضون ، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم .

انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية . من أنواع الفصاحة . وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفى من الأمر بالكتابة للمتداينين ، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل ، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة ، ومن أمره ثانيا بالكتابة ، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن ، أو لوليه إن لم يمكنه ، ومن الأمر [ ص: 359 ] بالاستشهاد ، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه ، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها ، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيرا ، ومن الثناء على الضبط بالكتابة ، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع ، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب ، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق ، ومن الأمر بالتقوى ، ومن الإذكار بنعمة التعلم ، ومن التهديد بعد ذلك ، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض ، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن ، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة ، ومن النهي عن كتم الشهادة ، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم ، ومن التهديد آخرها بقوله : ( والله بما تعملون عليم ) فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع ، وقد قرنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنفوس والدماء ، فقال : " من قتل دون ماله فهو شهيد " وقال : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم " . ولصيانتها والمنع من إضاعتها ، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس ، وحجر الجنون ، وحجر الصغر ، وحجر الرق ، وحجر المرض ، وحجر الارتداد .

( لله ما في السماوات وما في الأرض ) قال الشعبي ، وعكرمة : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها ، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، قال مقاتل ، والواقدي : نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين .

ومناسبتها ظاهرة ؛ لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمه أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة ؛ لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة ، فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السماوات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته .

ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل‌ بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين .

والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكا له ؛ لأنه تعالى هو المنشئ له ، الخالق ، وقيل : المعنى لله تدبير ما في السماوات وما في الأرض ، وخص السماوات والأرض ؛ لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السماوات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل ؛ لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة ، وأما العاقل فأجناسه قليلة ؛ إذ هي ثلاثة : إنس ، وجن ، وملائكة .

التالي السابق


الخدمات العلمية