صفحة جزء
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) هذا على إضمار القول ، أي : قولوا في دعائكم : ( ربنا لا تؤاخذنا ) والدعاء مخ العبادة ؛ إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار ، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال ، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع ، وافتتحت كل جملة منها بقولهم : ( ربنا ) إيذانا منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم ، ومصلح أحوالهم ، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار ، ولم يأت لفظ ( ربنا ) ، في الجمل الطلبية أخيرا ؛ لأنها نتائج ما تقدم [ ص: 368 ] من الجمل التي دعوا فيها : بربنا ، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة ، فقابل ( لا تؤاخذنا ) بقوله : ( واعف عنا ) وقابل ( ولا تحمل علينا إصرا ) بقوله : ( واغفر لنا ) وقابل قوله ( ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) بقوله : ( وارحمنا ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تكليف ما لا يطاق الرحمة .

ومعنى : المؤاخذة ، العاقبة ، وفاعل هنا بمعنى الفعل المجرد نحو : أخذ ، لقوله : ( فكلا أخذنا بذنبه ) وهو أحد المعاني التي جاءت لها فاعل ، وقيل : جاء بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحد ؛ لأن المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقب تذنبه كالمعين لنفسه في إيذائها ، وقيل : إنه تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، والمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم ؛ إذ لا يجد من يخلصه من عذاب الله إلا هو تعالى ، فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة والنسيان الذي هو : عدم الذكر ، والخطأ موضوعان عن المكلف لا يؤاخذ بهما ، فقال عطاء : ( نسينا ) جهلنا ، و ( أخطأنا ) تعمدنا ، وقال قطرب ، والطبري : ( نسينا ) تركنا ، و ( أخطأنا ) قال الطبري : قصدنا ، وقال قطرب : أخطأنا في التأويل ، قال الأصمعي : يقال أخطأ : سها وخطئ تعمد ، قال الشاعر :


والناس يلحون الأمير إذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد



ومن المفسرين من حمل النسيان هنا والأخطاء على ظاهرهما ، وهما اللذان لا يؤاخذ المكلف بهما ، وتجوز عنهما إن صدرا منه ، وإياه أجاز الزمخشري في آخر كلامه في هذه الآية ، واختاره ابن عطية قال الزمخشري : ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما منسيان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله : ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) ؟ والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس ، فتكون وسوسته سببا للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان ، ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله ، لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه ، انتهى كلامه .

قال ابن عطية ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ عن المقصود ، وهذا هو الصحيح .

قال قتادة في تفسير الآية : بلغني أن النبي - عليه السلام - قال : إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطئها . وقال السدي : لما نزلت هذه الآية تغالوا ، قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم : قد فعل الله ذلك يا محمد . فظاهر قوليهما ، يعني قتادة والسدي ما صححته ، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : ( يحاسبكم به الله ) أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ ، انتهى كلامه .

وقيل : النسيان فيه ومنه ما لا يعذر ، فالأول كنسيان النجاسة في الثوب بعد العلم بها ، فمثل هذا هو المطلوب عدم المؤاخذة به ، وهو ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب الذكر ، وقيل : هذا دعاء على سبيل التقدير ، فكأنهم قالوا : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذ به ، وقيل : المؤاخذة به غير ممتنعة عقلا ، وذلك أن الإنسان إذا علم أنه مؤاخذ به استدام التذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلا استدامة التذكر ، وذلك فعل شاق على النفس ، فحسن الدعاء بترك المؤاخذة به .

وقد استدل بهذه الآية على جواز تكليف ما لا يطاق ، وقيل : في الآية دليل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ؛ لأن حمل النسيان والخطأ على ما لا يؤاخذ به قبيح طلبه والدعاء به ، فتعين أن يحمل على ما كان فيه العمد إلى المعصية ، فيكون النسيان ترك الفعل ، [ ص: 369 ] والخطأ الفعل ، وقد أمر تعالى المؤمنين بطلب عدم المؤاخذة بهما ، فهو أمر منه لهم أن يطلبوا منه أن لا يعذبهم على المعاصي ، وهذا دليل على إعطائه إياهم هذا المطلوب .

( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج ، والربيع ، وابن زيد : الإصر العهد والميثاق الغليظ ، وقال ابن زيد أيضا : الإصر الذنب الذي لا كفارة فيه ولا توبة منه ، وقال مالك : الإصر الأمر الغليظ الصعب ، وقال عطاء : الإصر المسخ قردة وخنازير ، وقيل : الإثم ، حكاه ثعلب ، وقيل : فرض يصعب أداؤه ، وقيل : تعجيل العقوبة ، روي ذلك عن قتادة ، وقال الزجاج : محنة تفتننا كالقتل والجرح في بني إسرائيل ، والجعل لمن يكفر سقفا من فضة . وقال الزمخشري : العبء الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه مكانه لا يستقل به ، استعير للتكليف الشاق من نحو : قتل النفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وغير ذلك ، انتهى .

قال القفال : من نظر في السفر الخامس من التوراة التي يدعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليهم من غليظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة .

وقرأ أبي ( ولا تحمل ) بالتشديد ، و ( آصارا ) بالجمع ، وروي عن عاصم أنه قرأ : ( أصرا ) بضم الهمزة ، و ( الذين من قبلنا ) المراد به اليهود ، وقال الضحاك : والنصارى .

( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال قتادة : لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا ، وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد ، وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير ، وقال مكحول ، وسلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الغلمة ، وحكاه النقاش عن مجاهد ، وعطاء ، ومكحول . وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة . وقال النخعي : الحب . وقال محمد بن عبد الوهاب : العشق ، وقيل : القطيعة . وقيل : شماتة الأعداء . روى وهب أن أيوب ، على نبينا وعليه السلام ، قيل له : ما كان أشق عليك في بلائك ؟ قال : شماتة الأعداء . قال الشاعر :


أشمت بي الأعداء حين هجرتني     والموت دون شماتة الأعداء



وقال السدي : التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم ، وقيل : عذاب النار ، وقيل : وساوس النفس ، وينبغي أن تحمل هذه التفاسير على أنها على سبيل التمثيل ، لا على سبيل تخصيص العموم .

و ( ما ) في قوله : ( ما لا طاقة لنا به ) عام ، وهذا أعم من الذي قبله في الآية ؛ لأنه قال في تلك : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) فشبه الإصر بالإصر الذي حمله على من قبلهم ، وهنا سألوا أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وهو أعم من الإصر السابق لتخصيصه بالتشبيه ، وعموم هذا ، والتشديد في ( ولا تحملنا ) للتعدية ، وفي قراءة أبي في قوله : ( ولا تحمل علينا إصرا ) للتكثير في حمل : كجرحت زيدا وجرحته ، وقيل : ما لا طاقة لنا به من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا أولا أن يعفيهم من التكاليف الشاقة بقوله : ( ولا تحمل علينا إصرا ) ثم ثانيا طلبوا أن يعفيهم عما نزل على أولئك من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها ، انتهى .

والطاقة القدرة على الشيء ، وهي مصدر جاء على غير قياس المصادر ، والقياس طاقة ، فهو نحو : جابة من أجاب ، وغارة من أغار ، في ألفاظ سمعت لا يقاس عليها ، فلا يقال : أطال طالة ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يعني بما لا طاقة ، ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ، وليس في وسعهم ، وهو المعنى الذي وقع فيه الخلاف ، والثاني : أن يعني بالطاقة ما فيه المشقة الفادحة ، وإن كان مستطاعا حملها .

فبالمعنى الأول يرجع إلى العقوبات ، وما أشبهها ، وبالمعنى الثاني يرجع إلى التكاليف ، قال ابن الأنباري : المعنى لا تحملنا حملا يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه ، خاطب العرب على حسب ما يعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليه ، وهو مطيق للنظر [ ص: 370 ] إليه لكنه يثقل عليه ، ومثله ( ما كانوا يستطيعون السمع ) .

واعف عنا واغفر لنا وارحمنا تقدم تفسير العفو والغفران والرحمة ، طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب وإسقاط العقاب ، ثم ستره عليهم صونا لهم من عذاب التخجيل ؛ لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال : عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب ، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولا ؛ لأنه الأهم ، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلي البارئ تعالى لهم ، وقال الراغب : العفو إزالة الذنب بترك عقوبته ، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله ، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه ، وكشف الإحسان الذي غطى به ، والرحمة إفاضة الإحسان إليه ، فالثاني أبلغ من الأول ، والثالث أبلغ من الثاني ، انتهى ، وقيل : واعف عنا من المسخ ، واغفر لنا عن الخسف من القذف ، وقيل : اعف عنا من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وارحمنا بثقل الميزان . وقيل : واعف عنا في سكرات الموت ، واغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في أهوال يوم القيامة . وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها .

أنت مولانا المولى مفعل من ولي يلي ، يكون للمصدر والزمان والمكان ، أما إذا أريد به مالك التدبير والتصريف في وجوه الضر والنفع ، أو السيد ، أو الناصر ، أو ابن العم أو غير ذلك من محامله ، فأصله المصدر ، سمي به وغلبت عليه الاسمية ، ووليته العوامل .

فانصرنا على القوم الكافرين أدخل الفاء إيذانا بالسببية ؛ لأن كونه تعالى مولاهم ، ومالك تدبيرهم وأمرهم ، ينشأ عن ذلك النصرة لهم على أعدائهم ، كما تقول : أنت الشجاع فقاتل ، وأنت الكريم فجد علي ، أي : أظهرنا عليهم بما تحدث في قلوبنا من الجرأة والقوة ، وفي قلوبهم من الخور والجبن .

وتضمنت هذه الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء ، منها : الطباق في وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه والطباق المعنوي في : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت لأن ( لها ) إشارة إلى ما يحصل به نفع ، و ( عليها ) إشارة إلى ما يحصل به ضرر ، والتكرار في قوله : وما في الأرض كرر ( ما ) تنبيها وتوكيدا ، وفي قوله : بين أحد من رسله وفي قوله : ما كسبت وما اكتسبت إذا قلنا أنهما بمعنى واحد ، إذ كان يعني لها ما كسبت والتجنيس المغاير في آمن والمؤمنون والحذف في عدة مواضع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية